الموت بـ"طلقة طائشة"
أنت الآن فى شارع العروبة بمنطقة الهرم، مساحته تتعدى 20 متراً، وبالتحديد منطقة المحولات مثل غيرها من المناطق الشعبية تزدحم بالسيارات، والتوك توك، والباعة الجائلين، الهدوء لا يعرف للمكان سبيلاً.
هنا فى منطقة المحولات بائع ستائر ومقهى لصاحبه المُسجل خطر «محمد على عثمان» 30 سنة، يواجهه فكهانى يجاوره محل لبيع الأدوات الصحية، ومخزن للرخام ملك أحد المقاولين العاملين بمجال العقارات، جميعهم يعرفون الطفل حسن سعيد سيد، الطالب بالصف الثانى الثانوى، و«حسن» هو أخ لـ10 أشقاء أصغر الصبية سناً وأكبرهم قلباً وأكثرهم حناناً ورفقاً بوالدته التى تعمل فى هيئة تعليم الكبار، توفى والده ولم يكن قد بلغ عامين من عمره.
صباح كل يوم يستيقظ «حسن» مبكراً، يحضّر طعام الإفطار لشقيقته ذات الـ8 سنوات، قبل أن تتوجه لمدرستها، يساعدها فى ارتداء ملابسها، تسريح شعرها، يسير بحركة خفيفة كى لا يزعج أحداً من أفراد أسرته ويعد لها ساندوتشات ليضعها بين كتبها، يطبع على جبينها قبلة ويودعها، يتوجه بعدها لمدرسته ويعود لأداء واجباته المدرسية.
فى الإجازة كان حسن يعمل لدى محل بيع مفروشات أسفل منزلهم، يتحصل على راتب شهرى، أوجه إنفاقه قليلة، يُعطى أمه الجزء الأكبر من مرتبه «خدى يا ماما عشان لما العيد ييجى أخرج مع أصحابى ولما أنجح أتفسح معاهم زى ما وعدتينى»، فاكهة البيت هو كما يصفه شقيقه الأكبر «محمد».
اجتاز «حسن» اختبارات الامتحانات فى الصف الأول الثانوى، ووالدته وفت بوعدها معه، وأعطته جزءاً من الأموال التى ادخرتها له ليتوجه مع أقرانه إلى أحد النوادى، وقضى يوماً جميلاً معهم، والتقطوا الصور، ربما لم يدر بخلدهم أنه اليوم الأخير والصورة الأخيرة، «حسن» ودعهم بطريقة غريبة وعلى غير العادة وطلب من صديقه أن يقرأ له الفاتحة كلما تذكره، «أبقى اقرا لى الفاتحة لما تيجى سيرتى فى أى يوم»، صديقه يرد «انت مالك يا حسن، طيب إن شاء الله أبقى أقراها»، يودعون «حسن» وكل منهم يمضى فى طريقه تحفهم آمال اللقاء مرة أخرى.[FirstQuote]
يوم الخميس 28 مايو، لم يكن يوماً عادياً فى حياة «حسن» فهو بحسب قوله «الحكومة اعترفت بيّا أهو وطلعت البطاقة»، يجرى فى المنزل «شوفى بطاقتى يا ماما شوفى صورتى عامل إزاى فيها»، احتفل بهذه المناسبة على طريقته، ملأ المنزل بهجة فى هذا اليوم، أخذ قسطاً كافياً من الضحك واللعب.
صباح اليوم التالى، الجمعة 29 مايو الماضى، عقارب الساعة تُشير لـ10 صباحاً، حسن استيقظ وأعد وجبة الإفطار، تناول الجميع طعامهم، وحان موعد الذهاب لأقرب مسجد لأداء صلاة الجمعة، فى هذا اليوم الابتسامات لم تغادر وجه حسن، بعد دخوله المسجد صلى ركعتى السُنة وهو يبتسم، أخوته لاحظوا ذلك الأمر، وأحدهم تذكر أن يسأله عن سبب الابتسامة العريضة التى لم تفارقه، إلا أن أمراً ما حدث أنساه السؤال.
فى طريق العودة إلى المنزل، تقابل الأشقاء مع أحد جيرانهم، مُسجل خطر وله أخ مثله وأب يحرض على الشر دائماً ولا يجد فى ذلك حرجاً أو مانعاً، «محمد على عثمان» صاحب المقهى الملاصق لمنزل الأسرة، يطلب منهم تقليم شجرة ادعى أنها تُسقط أوراقها على زبائن المقهى، وبرغم عدم جدية المبرر استجاب «محمد» شقيق «حسن» للطلب، وأحضر معدات وقلّم الشجرة.
توجه محمد إلى والد جاره صاحب المقهى ليخبره أنه قلم الشجرة كما طُلب منه، وقال «أنا عملت اللى انتو عايزينه يا حاج على وأى خدمة تانى تحت أمرك»، لا أحد من شهود الواقعة يعلم سبب الاعتداء المفاجئ لـ«مصطفى» شقيق صاحب القهوة على «محمد»، وأثناء محاولات إبعاد الطرفين، بدأ أفراد أسرة صاحب المقهى فى إلقاء الحجارة من أعلى العقار، ناحية حسن وأشقائه، والدة «حسن» فى منزلها تناهت لها أصوات ضجيج، تُسرع فى خطاها، لتجد حسن ينظر إليها مبتسماً، «فى إيه يا حسن»، حسن لا يرد فقط يبتسم، «ادخل يا حسن على حوش البيت هنا ومالكش دعوة بحاجة اطلع انت يلا»، الرد فى ابتسامة ونظره طويلة لها.
فى المنزل المجاور يعتلى صاحب المقهى «محمد على» شرفة المنزل «ويبدأ فى إطلاق النار بكثافة من سلاح نارى بحوزته تجاه الأشقاء وبعض المتجمعين من الجيران، لتستقر طلقة فى وجه حسن وتُرديه قتيلاً فى الحال، الأم رأت أحلاماً تنهار ومستقبلاً غامضاً، شريط من الذكريات مر من أمامها فى ثوان، ترتدى إسدال الصلاة وتهرول للأسفل، تضم ابنها لحضنها، ترجوه ألا يموت، ترجوه أن يبقى، دون جدوى.
مصدر النار لا يتوقف ولا يرحم، دون شفقة أو رحمة، الأم تحاول التوجه إلى أقرب مستشفى حاملة ابنها، سالت دماؤه على ملابسها، وفى الطريق إلى مستشفى الهرم فقدت الأمل بشكل كامل، ومات حسن.
«الوطن» انتقلت إلى مكان الحادث وتقابلت مع والدته الثكلى «إيمان. م» وتقول «أنا ابنى مات، بس مش عايزة حقه يضيع، أنا بقول للرئيس السيسى ولوزير الداخلية اعتبروا اللى مات دا ابنكم»، وتضيف «تحريات المباحث نفعتنا الحمد لله لأنهم أكدوا إن ابنى وإخواته مش بتوع مشاكل ولا بيؤذوا حد، اللى قتل ابنى لسه هربان وأنا بطالب بسرعة القبض عليه، حسبى الله فى اللى حرق قلبى على ابنى».
وتضيف الأم: أنا خدمت البلد، أنا علمت الكبار وخرّجت أولادى من جامعات وبيشتغلوا وبينفعوا بلدهم، ولى ابن فى الجيش، ومستنية حقى من البلد، وعايزة حق ابنى، أنا احتسبته عند الله بس مش عايزة حقه يضيع.[SecondQuote]
عبدالرحمن شقيق المجنى عليه يقول «أنا معرفش حسن مات إزاى، متصورتش فى يوم إنه يموت بالطريقة دى، كان صاحبى وحبيبى، كان بينزل يشتغل معايا عشان يدى أمه فلوس رغم إنها مش محتاجة منه حاجة، كان حنين معانا كلنا، قبل الحادثة بيوم طلّع بطاقته وكان فرحان بيها قوى، المسيحيين هنا بيحبوه قبل المسلمين، لما بيكون فى عيد أو مناسبة هو اللى بيصمم إنه يروح يودى أطباق الأكل للناس بنفسه، عشان يكون سبب فى فرحتهم، ولما تعدى مسيرة للإخوان من تحت البيت كنا نقوله ادخل جوه إحنا مالناش دعوة بالموضوع ده، تعالى ادخل البيت كان يدخل على طول».
محامى الأسرة طلب من وزارة الداخلية سرعة القبض على المتهم الرئيسى فى الواقعة، الذى وجهت له النيابة العامة تهمة القتل العمد وأصدرت أمراً بضبطه وإحضاره، ووجهت لوالده وشقيقه اتهامات بالتحريض على القتل، وحيازة أسلحة نارية دون ترخيص.