المسافرون التاريخيون يتذكرون: فين زمن المليم والقرش؟!
تقطع عجلات القطار المسافة بين المحطات، يتذكر إبراهيم حفناوى، الذى يبلغ من العمر 70 سنة، كيف كانت العربات الخضراء حديثة الدهان تميل بالجالسين داخلها على كراسى بنية، وكيف كان يمر الموظف بزيه الأزرق الداكن بين الركاب بدفتر «المانيفستو» وقلم حبر مصرى الصناعة، وقتها كانت تكلفة أجرة التذكرة من القاهرة إلى مدينة قويسنا فى المنوفية قرشين فقط.
بعد ارتفاع أسعار تذاكر القطارات الذى أقرته الحكومة، قارن «إبراهيم» بين أسعار التذاكر اليوم لاستقلال القطار من القاهرة إلى قويسنا بمدينة المنوفية ومثيلتها قبل نحو 40 عاماً، عندما بدأ استخدم القطار كوسيلة نقل شبه دائمة.
اليوم، يجلس «إبراهيم» على أحد الكراسى البلاستيكية ذات الكسوة القماشية المعطنة، فى عربات الدرجة الثانية المميزة، ويرى أن مستوى الخدمة تراجع، يقول: «كنت أرتدى ثوبى المعتاد، الجلباب الرمادى القاتم ذا الأطر السوداء وطاقية الرأس البيج عام 1978، عندما ركبت القطار للمرة الأولى، كانت التذكرة أيامها بقرشين أول عن آخر». ويضيف الرجل السبعينى وهو يشير بإصبعين من أصابع يده المشققة، قبل أن يبتسم بمجرد إتمامه الجملة وهو يعود بظهره إلى الكرسى.
بظفر إصبعه يحك «إبراهيم» طرف شاربه، وهو يستعيد قيمة النقود فى ذلك الوقت، قائلاً: «فى الوقت ده كنت أنا وزميلى فى الشغل بنفطر بـ5 قروش، كنا نجيب فول وطعمية وعيش وجرجير وبصل يكفينا»، تتسع ابتسامة العجوز على وجهه المتجعد القمحى.
تقاعد إبراهيم حفناوى من العمل فى أحد مخازن السكة الحديد قبل نحو 10 سنوات، ورغم ذلك فإنه مضطر للذهاب من محل إقامته فى المنوفية إلى القاهرة لصرف علاج فيروس الكبد الوبائى (سى) الذى يعانى منه منذ 8 سنوات، ويقول: «حق التذكرة دلوقتى زاد بقى 14 جنيه، ودى أغلى من فلوس الفطار، المعاش دلوقتى مايجيبش حاجة».
وقت افتتاح مجمع الألومنيوم فى مدينة نجع حمادى فى محافظة قنا، كان رقم عبدالرازق إبراهيم بين العمال هو 627، يستعيد الشيخ الذى أوشك على الثمانين رقم ترتيبه فى جداول العمال، كما يستعيد ثمن التذكرة التى كانت تنقله بالقطار القديم «أبو كراسى خشب»، مثلما يصفه، لزيارة أبناء عمه فى القاهرة، ويقول: «كنا نركب القطار بتذكرة 90 قرش، من نجع حمادى لمصر، ونروح عند ولد عمنا كام يوم فى الأجازات ونرجع تانى نجع حمادى».[FirstQuote]
على مقاعد من الجرانيت يجلس «عبدالرازق» اليوم القرفصاء، بعدما زادت أسعار التذاكر بشكل متدرج من 90 قرشاً فى ستينات وسبعينات القرن الماضى، حتى وصلت قيمتها إلى 42 جنيهاً، بمقدار 45 ضعفاً تقريباً، ويقول «عبدالرازق»: «زمان كان مرتب الواحد 7 جنيه أو 10 جنيه، وكان كيلو البرتقال بـ5 قروش، وكيلو اللحمة بـ20 قرش وكان البيت بيتفتح بـ10 جنيه و5 جنيه فى الشهر كمان».
تحاشى العامل المتقاعد فى مجمع الألومنيوم قديماً اصطحاب أسرته معه فى الذهاب إلى أقاربه فى القاهرة، لكنه الآن صار أكثر حرصاً على تقليل الزيارات الجماعية، وإنما يسعى لأن يسافر منفرداً مثلما هو الحال فى هذه المرة، حيث يجلس فى انتظار القطار العائد إلى قنا وقد خلع عنه نعليه وجلس القرفصاء على كراسى الانتظار.
ازداد معاش عبدالرازق إبراهيم، المتقاعد من مجمع الألومنيوم، إلى 2003 جنيهات، لكنه يقول «قيمة الجنيه مابقتش زى الأول، زمان كانت الـ10 جنيه تستر عيلة، دلوقتى الألف والألفين ميجيبوش حاجة».
بشكل لافت زادت الأسعار فى أواخر السبعينات فى القرن الماضى، وقتما أقر الرئيس الراحل محمد أنور السادات سياسات الانفتاح الاقتصادى، عندئذ زادت أسعار تذاكر القاهرة نجع حمادى من 90 قرشاً إلى جنيه ونصف الجنيه، فى ذلك الوقت، كان عبده إبراهيم شاباً فى مقتبل عمره، وقد التحق بمهنة التدريس فور تخرجه، ولذلك مثّلت قيمة التذكرة بعد الزيادة فى نهاية السبعينات جزءاً كبيراً من راتبه الشهرى من المدرسة التى بدأ العمل فيها فى محافظة قنا.
«عبده»، الذى بلغ حالياً الثانية والخمسين من عمره، كان فى ذلك الوقت ينفق فى اليوم الواحد 10 قروش، ويقول «كان مرتب الواحد فى الوقت ده بيبدأ بـ15 جنيه، اللى هو دلوقتى مصروف طفل فى إعدادى مثلاً، المرتبات بتزيد لكن كل جنيه بيزيد فى المرتب الحكومة بتاخده الضعف فى الأسعار».
على الرغم من الزيادة اللافتة فى الأسعار، لا سيما أسعار التذاكر، التى يرى «عبده» أنها أكبر من الزيادة فى الرواتب، يقول «الخدمة اتحسنت عن زمان، بحكم الزمن وبحكم التكنولوجيا». ويضيف الرجل الذى اصطحب ابنته الصغيرة معه إلى القاهرة فى زيارة أسرية تاركاً بقية أسرته فى منزله بمدينة نجع حمادى فى قنا: «كل زمان وله ظروفه، ومعروف إن الأسعار هتفضل تزيد وإن الزيادة هتفضل أكبر من الزيادة اللى بتطبقها الحكومة على المرتبات، ولو مدرس مرتبه 1700 جنيه فالزيادة فى أسعار تذاكر القطارات هتأثر على التزاماته فى إيجار السكن ومصاريف مدارس الأولاد»، ويختتم كلامه: «سعر التذكرة بين القاهرة ونجع حمادى دلوقتى كانت تكفى لأنها تفتح بيت وتعيش أسرة من 7 أفراد فى أيام السبعينات»
على أحد مقاعد الركاب المقابلة لعربات الدرجة الأولى المكيفة، يجلس هشام سليم، بصحبة صديق له فى انتظار قطار الإسكندرية، يتبادل الصديقان الحديث حول الخدمة المقدمة فى محطات السكك الحديدية، ويقول «بداية من الخدمة فى شباك التذاكر، لما تلاقى الموظفين مش بيردوا على أى سؤال بيسأله المواطن ولا بتلاقى مدير بيمر على الموظفين فى المحطة، وكل واحد من موظفين التذاكر همه إنه يبيع التذكرة ويصعب عليك إنك ترجعها لو كنت قطعتها بالغلط علشان بياخد نسبة من التذاكر اللى بيبيعها».
عبده أحمد
يرتدى الرجل الخمسينى بنطلوناً وقميصاً مكويين بعناية، ويرفع نظارة شمسية على رأسه، ورغم حرصه على ركوب الدرجات المكيفة فى القطارات المتجهة إلى الإسكندرية، فإنه ينتقد التعريفة الحالية لركوب القطار وأسعار التذاكر، بما فى ذلك المبالغ المضافة إلى القيمة الرئيسية للتذكرة ومنها «معونة الشتاء»، التى تصل إلى 5 جنيهات: «المبلغ ده ممكن مايفرقش مع واحد معاه، لكن لو واحد على قد حاله هيهون عليه الجنيه الزيادة وهيفرق معاه، لأنه مش عامل حسابه».
يقيم هشام فى القاهرة ويعمل فى محافظة الإسكندرية، ما يضطره للسفر أسبوعياً ويومياً فى بعض الأحيان من القاهرة إلى الإسكندرية والعودة، لذلك فكّر هشام فى أن يستخرج اشتراكاً لركوب القطار، ويوضح تفاصيل الاشتراك قائلاً: «قيمة الاشتراك 65 جنيه، وكان بيدى الواحد 10500 وحدة، ويتحاسب على الرحلات بتاعته بالكيلوهات»، لكن هذه النوعية من الاشتراكات ألغيت، شكل الشركة شافت إن موضوع الاشتراك مخسّر معاها».
قليلاً ما يزور الأب والأم ابنهما الذى يعمل فى القاهرة، وإنما ينتظرانه هو للحضور، ورغم ذلك فقد سافر المهندس محمد رضا، ذو الـ62 عاماً، من الإسكندرية إلى القاهرة بصحبة زوجته ومن ثم العودة هو وهى وابنهما إلى الإسكندرية بواسطة القطار، الذى تعتبره الأسرة «أكتر وسيلة مريحة فى السفر بين القاهرة والإسكندرية».
الزيادة الأخيرة فى أسعار تذاكر القطارات، ستقابلها زيادة فى تعريفة ركوب سيارات النقل الخاصة والأجرة مثل الميكروباص، بحسب ما يتوقع المهندس رضا وزوجته.
هشام سليم
عودة الأسرة من القاهرة إلى الإسكندرية ستكلفها نحو 150 جنيهاً، حيث ازداد سعر الدرجة الأولى إلى 51 جنيهاً للتذكرة الواحدة تقريباً. ويقول الابن: «زيادة الأسعار غير مبررة على الإطلاق، مش علشان شوية عربيات اشترتهم مصر من الصين ولا المجر هنزود سعر التذكرة بالشكل ده، ومش منطقى خالص إن واحد زميلى يقول لى إنه مسافر النهارده بلده فى أسوان بـ70 جنيه وأنا أسافر بـ50 جنيه».
قبل نحو 20 عاماً، كانت خمسين جنيهاً تكفى لسفر «رضا» وزوجته بواسطة القطار فى الدرجة الأولى المكيفة، وهى أفضل مستويات القطار فى سكك حديد مصر، وقابلت تلك الزيادة فى أسعار تذاكر القطار زيادة فى أسعار ركوب السيارات الأجرة.
من القاهرة إلى مطاى فى محافظة المنيا، اعتاد سعيد عبدالحكيم، السفر إلى مسقط رأسه لقضاء أيام بعد صرف معاشه الشهرى من مصلحة السجون، التى كان يعمل لديها فى شبابه بداية من الخمسينات فى القرن الماضى، يجلس العجوز على مقعد يقابل عربات الدرجة الثانية المميزة، ويسند شنطة سفره المتهالكة بين قدميه المنتعلتين صندلاً جلدياً أسود، فيما يرتدى جلباباً سماوى اللون، ويسدل على كتفيه شالاً خفيفاً أبيض ويحكم ارتداء الطاقية البيضاء فوق رأسه.
يقارن «عبدالحكيم» بين أسعار التذاكر فى فترة الخمسينات وأسعارها فى الوقت الراهن: «أيام الملك كنت بركب القطر الترسو زى ما كانوا بيقولوا عليه بقرشين وفى العيد كانت بتبقى بـ3 تعريفة وكنت بنزل سمالوط أو المنيا علشان مكانش فيه لسه محطة فى بلدى مركز مطاى، وكنت بجيب إزازة حاجة ساقعة بـ3 تعريفة أو ساندوتش بتعريفة، وأنا فى الطريق»، يسترجع العجوز.
زاد سعر التذكرة من القاهرة إلى مطاى بشكل ملحوظ، من الخمسينات إلى اليوم بمقدار كبير، بحسب ما يقدر الشيخ «دلوقتى التذكرة جايبها بـ25 جنيه، والاسم إنها تذكرة درجة تانية، والكراسى ما يعلم بيها إلا ربنا ده لو لقينا الكرسى، الواحد بيركب القطار علشان عارف إنه أرخص مواصلة يسافر بيها لأهله، لأن الميكروباص دلوقتى بـ50 جنيه».
يتقاضى «سعيد» معاشاً شهرياً يقدر بحوالى 3000 جنيه، ينفق جانباً كبيراً منه على الأدوية اللازمة لعلاج فيروس الكبد الوبائى، ما يضطره للسفر مرة واحدة شهرياً لتلافى الزيادة فى أسعار تذاكر القطارات.