الوطن هو البيت الذى وُلدت فيه، والحى الذى شهد طفولتك وصباك.. هو المسجد أو الكنيسة التى تشربت فيها منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية، وشكلت النواة الأولى لعواطفك ووجدانك.. الوطن هو المدرسة التى تعلمت فيها أبجديات العلم، والثقافة، والتاريخ، والاجتماع.. الوطن هو الجامعة التى تكونت فيها شخصيتك، وتكاملت فيها رؤيتك عن الوجود والكون والحياة.. الوطن هو آباؤك وأجدادك وأقاربك وأحبابك وأصدقاؤك، هو أهلك وأولادك وأحفادك.. هو ذكرياتك وآمالك وأحلامك.
أنت تريد أن تبنى بيتاً، أو تزرع أرضاً، أو تقيم مصنعاً، أو تنشئ مدرسة أو معهداً، أو حتى تطبق شريعة.. هل تقوم بذلك كله فى الهواء، أم فى وطن؟ الوطن إذن هو الأساس.. هو الركيزة التى يقوم عليها البناء، أىّ بناء.. هو الماضى والحاضر والمستقبل.. قال فيه شوقى:
«وطنى لو شغلت بالخلد عنه * نازعتنى إليه فى الخلد نفسى».. و«بلادى وإن جارت علىّ عزيزة * وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام».
هذا الإحساس الراقى والعبقرى هو تعبير عن قوة الرابطة وعمق العلاقة التى نشأت بين الشاعر والوطن.
فى كتابه «المسلم مواطناً فى أوروبا»، يقول فيصل مولوى: «كلمة الوطن فى اللغة تشير إلى الأرض التى يقيم عليها الإنسان، وهو (محل الإنسان)، ونظراً للارتباط بين الإنسان والمكان الذى يعيش فيه؛ أصبحت هذه الكلمة محبوبة للنفوس، يتغنى بها الناس مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، وقد أشار الله تعالى إلى حب الناس الفطرى لأوطانهم مع سائر المحبوبات {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24)، فسمى الأوطان (مساكن ترضونها) ولم ينكر على المسلمين حب أوطانهم».. بل إنه سبحانه أوجب عليهم محبتها..
نحن نرى بوضوح كيف كان حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لوطنه مكة، حتى بعد أن أخرجه أهلها منها، فيقول: «ما أطيبك من بلد وأحبك إلىّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنت غيرك» (أخرجه الترمذى).. وقوله أيضاً: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد» (أخرجه البخارى).. كما يظهر حنينه (صلى الله عليه وسلم) إليها عندما أخذ «أصيل» يصفها أمامه فقال: «يا أصيل دع القلوب تقر» («الإصابة» لـ«ابن حجر»).
من هنا كانت المواطنة، وهى فعل انتماء للوطن، عبارة عن مفاعلة بين الناس والمكان، ينشأ عنها عاطفة الحب للوطن، ويترتب عليها حقوق وواجبات متبادلة بين الإنسان والوطن الذى يقيم فيه.. إن طبيعة الاجتماع الإنسانى أو العمران البشرى (بتعبير ابن خلدون) جعلت الناس الذين يقيمون على أرض واحدة يرتبطون فيما بينهم بوشائج متعددة، وينشئون بالضرورة سلطة تدير شئونهم وتقودهم فى مواجهة الجماعات الأخرى.. المواطنة لم تعد مجرد انتماء إلى أرض معينة، بل هى أيضاً انتماء إلى الناس الذين يسكنون هذه الأرض، وإلى النظام الذى يحكم علاقاتهم وأحوالهم، وهى نوع من الولاء للسلطة القائمة فى هذا الوطن، وهى ترتب فعلاً مجموعة متكاملة من الحقوق والواجبات المتقابلة بين المواطن والوطن.. وعندما يقع اختلال فى القيام بين الواجبات، فلا بد أن ينتج عنه نقصان فى استيفاء الحقوق المقابلة لها، والعكس صحيح.. من هنا كان الجهاد فى سبيل الدفاع عن الوطن وتأمينه والمحافظة عليه من أوجب الواجبات، يسترخص فى سبيله المهج والأرواح.. وقد اتفق أهل العلم على أنه حال تعرض الوطن لاعتداء من قبل العدو، وجب استنفار الجميع دون استثناء، حتى إن المرأة لتخرج إلى الحرب بغير إذن زوجها، ويؤذن للصبيان بالقتال.
لكننا -للأسف- فُجعنا بأناس لا يعرفون للوطن حقاً، ولا حرمة، ولا قدراً، ولا قيمة.. لا تشغلهم همومه وآماله وآلامه، ولا يشعرون بأفراحه وأحزانه.. هم غرباء عنه، رغم أنهم يعيشون على أرضه ويأكلون من ثمره.. هم قساة القلوب غلاظ المشاعر والأفئدة، رغم أن الوطن يتحنن إليهم ويعطف عليهم.. هؤلاء لا تهمم معرفة الطريق إليه.. لقد ضاع الوطن عندهم، فلا يجد له موطئ قدم فى عقولهم ولا فى قلوبهم.. كأنه تاه فى صحراء مترامية، لا معالم ولا حدود لها.. اختفى أمام ناظريهم، فلا يرون ولا يشعرون أن له أثراً.
إن المهمة الكبرى التى يضطلع بها الجيش هى حماية الوطن والمحافظة على أمنه واستقلاله.. ليس هذا فقط، وإنما حماية كل من فيه من شعب ومؤسسات وقوى حية، وما فيه من ثروات وموارد وخيرات، وما يتميز به من موقع استراتيجى، وما له من تاريخ وريادة فى القديم والحديث.. وعلى الرغم من ذلك، فقد وجدنا من يحاول كسر الجيش المصرى وإنهاكه وإسقاط هيبته.. وإذا كانت هذه هى مهمة أى عدو يخطط ليجتاح الحرمات ويدنس المقدسات، فبماذا نصف هؤلاء إلا بالعمالة والخيانة؟! فهل نظرنا إلى ما فعله الأمريكيون عند احتلالهم للعراق عام ٢٠٠٣، وأنه لم يعد هناك وطن، ولا شعب، ولا مؤسسات، ولا ثروات.. مجرد أشلاء ممزقة، وأطلال مبعثرة، وعنف وإرهاب يدمر كل شئ؟!
إنها مهمة شاقة وصعبة، لكن لا بد من القيام بها، أقصد مهمة إحياء وإعلاء ثقافة حب الوطن والإيمان بمكانته ومنزلته على المستوى المجتمعى العام.. هذه المهمة يجب أن تضطلع بها وزارات: التعليم، والثقافة، والإعلام، والأوقاف، فضلاً عن الأزهر، على أن تتم وفق خطة ممنهجة ومحددة.. ومن المؤكد أن مؤسسات المجتمع المدنى من أحزاب، ونقابات، وجمعيات لها دورها الكبير أيضاً.. هى ليست مهمة فرعية أو هامشية، أو يمكن اعتبارها من المهام المندوبة أو المستحبة، بل هى من الفرائض، أقصد فرض عين على المتعين عليه، أى رئيس مجلس الوزراء، ومن قبله رئيس الدولة.