«الوطن» تكشف بالصور: عمليات نهب الآثار علي مساحة500فدان في "بني سويف"
العظام البيضاء تكسو الأرض وتصنع معها بساطاً يتماهى مع الرمال الصفراء، والجماجم المتهشمة تتناثر فى كل مكان، ألواح التوابيت الملونة ما زالت تحتفظ برونقها ودقة نقشها رغم مجهودات خفراء المنطقة لجمعها نهاراً للتدفئة بها ليلاً وصناعة الشاى، وبقايا الأكفان التى ظلت صامدة لآلاف السنين تحملها الرياح إلى مقلب قمامة على أطراف الجبانة الأثرية، فيما تتعثر خطواتك الحذرة من جراء حفر التنقيب المتتالية كى لا تطأ قدماك أشلاء مومياء مزقها اللصوص ليلاً بحثاً عن الخبيئة والتمائم.[FirstQuote]
قرية صغيرة تتبع إدارياً مركز الواسطى، تعداد سكانها لا يزيد على 20 ألف مواطن بحسب الإحصاء السكانى لعام 2006، اسمها «أبوصير الملق»، يتردد هذا الاسم كثيراً مع ضبطيات الشرطة للآثار المسروقة فى محافظة بنى سويف، بحث بسيط فى أرشيف الصحف المصرية خلال الأشهر الستة الماضية يجعلها تحتل المرتبة الأولى فى حجم التماثيل والتوابيت المسروقة، التى قام لصوص الآثار بجمعها بطريقتهم الخاصة، لكن اللافت أن أحداً لم ينتبه إلى السر وراء مصدر كل هذه المضبوطات.
حالها لا يختلف كثيراً عن بقية القرى المصرية، شوارعها مدقات ملتوية بفعل «الصرف الصحى» غير المكتمل، نساؤها يغسلن الملابس والأوانى فى الترع، وبيوتها مزيج من الطين والطوب الأحمر، لكن ما أن تنحرف يميناً عن الطريق، قاصداً منطقة المقابر التى تجاور كنيسة مارجرجس، حتى يختلف الأمر كثيراً.
فى البداية تبدو المنطقة كأنها سهل رملى فسيح، مساحته تتجاوز 500 فدان، بلا أسوار أو حراس، ما أن تخطو بضع خطوات حتى تتضح معالمها، أنت الآن تقف فوق واحدة من أكبر الجبانات الفرعونية التى لم يتم الكشف عنها بعد، الحفر المتجاورة والمترامية إلى حيث ينتهى بصرك تقول إن لصوص الآثار لم يتركوا حجراً إلا وبحثوا من تحته، الموقع الأثرى يشبه قطاعاً عرضياً فى قطعة جبن سويسرية مليئة بالثقوب، لكن الأسوأ لم يظهر بعد.
ثمة حفرة تحت قدميك عمقها متران، ما أن تنزل إليها حتى تستقبلك عظام الحوض وسيقان مومياوات محطمة، ينزاح الغبار تدريجياً، فتظهر فى أحد أركانها 5 جماجم بشرية، بعضها ما زالت تلتصق به قصاصات كتان التحنيط، فى أقصى الحفرة، تبدو نصف مومياء عالقة، اقتطعت من منطقة البطن بشكل وحشى، سيقانها لا تزال مدفونة أفقياً فى الرمال، ولفائف التحنيط المنزوعة تملأ الحفرة وكأنها مبطنة به من الداخل.
فى الأعلى وفى منطقة قريبة ثمة رجلان يحمل أحدهما عصا يقلب بها فى بعض الحفر، اسمه سعيد، خمسينى يرتدى جلباباً صعيدياً أزرق فضفاضاً، وحول عنقه المتشبع بالسمرة شال زهرى اللون، راح يجمع تحت إبطه ألواح خشب متناثرة فوق تلال الرمل المتكومة بفعل عمليات التنقيب السرى، بعضها ملون وعليه نقوش فرعونية، يتطوع الرجل فى تبرئة ساحته من تهمة تطال كل من تطأ قدمه هذه البقعة «إحنا مش حرامية، هما بيظهروا بالليل بس، إنما إحنا بنيجى نجمع خشب التوابيت والجبانات عشان نولع بيه بالليل ونتدفا ونعمل شاى».[SecondImage]
يسترسل سعيد «الحفر كان الأول لناس معينة عندها خبرة وعارفة هى بتدور على إيه، لكن لأن المنطقة غنية ومليانة بالآثار، فأصبح أى حد يحفر له مترين أو تلاتة لازم يطلع بحاجة، مرة تمثال ومرة موميا وأحياناً مقبرة كاملة، وبالتالى تورط عدد كبير من أهالى القرية فى هذه السرقات، ثم أصبحت مطمعاً لسكان القرى المجاورة».
يتدخل الرجل الثانى، «وهدان»، مزارع يسكن فى بيت مجاور للجبانة «بالليل نخشى الخروج من بيوتنا، أصوات السلاح الآلى وضرب النار أصبحت أمراً معتاداً، لا يسقط قتلى فى الغالب، لكنهم يستخدمونها أحياناً لإرهاب أفراد الأمن المسئولين عن تأمين الموقع ليلاً، وأحياناً عندما يعثر أحدهم على خبيئة كبيرة يعلن الجميع بذلك لئلا يقترب أحد من موقعه».
الحفر فى هذه الجبانة مختلفة الأعماق، بعضها يصل إلى 15 متراً، لا يستخدم اللصوص سوى المعاول والفئوس وأدوات الحفر البدائية، كما أن بعضها مبطن بأحجار عليها نقوش تقود إلى سراديب وحفر سرية، أثناء الزيارة الأولى للموقع قادنا بعض الصبية إلى منطقة يسمونها «المعبد»، عبارة عن حفرة قدرها 8 أمتار تنتهى إلى جدار صخرى يحمل نقوشاً جنائزية وفتحة على هيئة باب ثم غرفة متوسطة الحجم كان بداخلها -بحسب أحد العاملين بالموقع- تابوت خشبى ومومياء لإحدى الشخصيات المهمة.
يرغب الشاب الذى يعمل بهيئة الآثار ويعتبر أحد المسئولين عن الموقع، فى عدم الكشف عن هويته مقابل تزويدنا بمعلومات يرى أنها مهمة، «عمليات التنقيب بدأت بعد الثورة مباشرة وبالتحديد فى فترة الانفلات الأمنى الذى صاحب انسحاب الشرطة، لكنها نشطت بشدة فى الأشهر الستة الماضية، وباتت تتم بشكل منتظم يومياً من العاشرة مساء حتى قبيل الفجر، يأتى الأهالى بأسلحة آلية وذخيرة كثيرة، ويبدأون عملهم بإطلاق بعض الرصاصات ناحية موقع تمركز أفراد الأمن، الذين لا يتجاوز عددهم فى هذه النوبتجية 5 أفراد بحوزة كل منهم 50 رصاصة، فى البداية كانوا يحاولون إرهاب اللصوص ومهاجمتهم، لكن تعرضوا لنوع آخر من الروتين الحكومى، حيث يتم سؤالهم عن عدد اللصوص ونوع الآثار التى سرقوها وتحديد موقع الحفرة بعناية، وهذا كله مستحيل فى الظلام الدامس وحجم الحفر اللامتناهى هنا، وبالتالى أصبح أفراد الأمن يفضلون السلامة والابتعاد عن الموقع حتى ينتهى اللصوص».[SecondQuote]
ثمة مقبرة كبيرة تشبه فى تكوينها المعابد الفرعونية صاحب فتحها -بحسب مسئول الموقع- ضجة كبيرة، كانت ليلة مقمرة، وكان الحفر فيها قد استغرق عدة أسابيع، وبالنهار يغطونها بالحطب، وهى علامة متبعة ومعروفة لدى الباحثين عن الآثار بأن الحفرة قيد التنقيب كى لا يتجرأ أحد على الاقتراب منها، وفى تلك الليلة سمعنا إطلاق نار كثيف، ثم جاءت سيارة نصف نقل محملة بأشخاص آخرين يحملون أسلحة وأخلوا الموقع لمدة ساعة تقريباً، وبعد أن عاينها أحد الأشخاص قاموا بنقل محتويات المقبرة وقطعوا بعض الأحجار التى عليها نقوش ترصد هوية المقبرة وصاحبها، وبحسب شهود عيان تم استخراج تمثالين من الجرانيت وتابوت وبعض الحلى الذهبية وأوانٍ فخارية تركوها وراءهم ورحلوا».
المساحة الشاسعة المترامية أمامك لا يمكنك رصدها، أما محاولات حصر أعداد الحفر بالعين المجردة فهو المستحيل بعينه، لذا جاءت فكرة الاستعانة بتطبيق «جوجل إرث»، فكانت النتيجة كارثية، الثقوب فى هذه الصحراء واضحة بشكل كبير وكثيف، لكنها أكثر من أن يتم حصرها، خاصة أنه ومن خلال الأقمار الصناعية، يمكن رصد الحفر شديدة العمق بشكل أكثر وضوحاً، أى أنه بإضافة الآبار والمقابر التى تم ردمها بعد استخراج الخبيئة بداخلها فإن المشهد سيصبح أكثر تعقيداً.[ThirdImage]
فى الناحية الغربية يزداد التل الرملى صعوداً، وتتراءى نوعية أخرى من الآبار التى حفرها اللصوص، تصبح الأعماق أكثر، وبأسفل كل منها فتحات أفقية، أغلبها مملوءة بالعظام والجماجم البيضاء المهشمة، فى هذه المنطقة تتناثر أجزاء سليمة من المومياوات، تتهافت عليها الكلاب الضالة وتجذبها بعيداً، أحد الحراس أكد أن عمليات التنقيب تزيد على 60% من مساحة الموقع الأثرى، نقترب قليلاً من إحدى المقابر المغطاة بالحطب، ثم سرعان ما يهرول رجلان يضع أحدهما على خصره مسدس ميرى، يتضح بعد ذلك أنهما مفتش الآثار المسئول عن الموقع فى هذا التوقيت ويدعى سمير جابر، وبصحبته أحد أمناء الشرطة، يخبرنا أن التصوير فى هذا الموقع ممنوع، يجرى اتصالاً بالسيدة نادية عاشور مدير عام الآثار ببنى سويف، لتؤكد له أهمية صرفنا من الموقع وأن التصوير ممنوع.
فى لقاء هاتفى مسجل مع نادية عاشور راحت تنفى ما يتردد عن كون الحراسة المخصصة للموقع غير كافية، وقالت لـ«الوطن»: «نعرف أن عمليات السرقات مستمرة، ولكن كل هذا حدث فقط بعد الثورة فى ظل الانفلات الأمنى، وقبل ذلك كان كل شىء منضبطاً وتحت السيطرة، ولا يمكننا فى هذه الظروف إقامة سور يكلف خزانة الدولة أكثر من 10 ملايين جنيه فى هذه الظروف الصعبة، لكننا قمنا بعمل المحاضر وإخطار الجهات الأمنية بكل ما يحدث».
وأضافت مديرة الآثار أن المنطقة مساحتها 400 فدان وجارٍ ضم 100 فدان أخرى إليها، مشددة على أن «المنطقة بها آثار تخص مرحلة ما قبل الأسرات حتى العصور الرومانية، وأنها ليست استثناء للتجاوزات وإنما يجرى عليها ما يجرى على أغلب المواقع الأثرية فى مصر الآن، وأنها على علم بكل ما يحدث فى الموقع».[ThirdQuote]
وبسؤالها عما إذا كان عدد الحراس وتسليحهم كافياً مقارنة بمساحة الموقع وتسليح اللصوص، أكدت أن الموقع يحرسه تقريباً 15 فرد أمن مقسمين إلى 3 ورديات، وأن هذا العدد كافٍ جداً، وأن هذا هو المتاح».
وبحسب الدكتورة مونيكا حنا خبيرة الآثار المصرية، فإن منطقة "أبو صير الملق " كانت مرتبطة بمدينة "أهناسيا" عاصمة مصر الشمالية في العصر الأنتقالي الأول، وكانت تسمى فى العصر اليونانى الرومانى" بوزيريس" المشتق من الاسم الفرعونى القديم " بر- أوزير" ومعناه بيت الإله "أوزوريس"، وهو ماتطور إلى اسمها الحالي أبو صير، وتؤكد أنه تم العثور فى هذا الموقع على شواهد لعصر "نقادة" الثاني والعصر "الصاوي" والعصر المتأخر، والعصر اليوناني الروماني والعصر القبطي، كما عثر على "دفنات" للهكسوس تعود إلى الاسرة 17، كما أن بعض المخطوطات المكتوبة باللغة اليونانية تشير إلى هذا الموقع بالتحديد من القرن الثالث قبل الميلاد، وحتى القرن السادس الميلادي، وفى العصر الأموى ارتبط الموقع بوفاة الخليفة مروان ابن محمد الجعدي (744- 751هجريا)، حيث كتب أنه توفى بالقرب من دير بأبوصير المغلق، ويقال إن شاهد قبره ما يزال موجودا حتى الآن.
وهو ما يعني أن لهذا الموقع الأثرى أهمية كبيرة، باعتبار تلك الجبانة واحدة من أكثر الجبانات الأثرية تنوعا وقدما فى التاريخ المصري.