لماذا وقع التاريخ ضحية للسياسة؟ ومتى؟ منذ متى بدأ العبث الذى أدى هذه الأيام إلى التطاحن والشجار حول وقائع التاريخ؟
بعد 1952 تم الغزو السياسى للتاريخ، وكان جيلنا أول المصابين بهذا «التسييس»، وكان الهدف هو إلغاء الفترة الوسيطة من عام 1919 وحتى 1952، وألغيت بالفعل، وآخر ما أذكره من التاريخ الذى درسته كان «أسباب فشل ثورة 1919»، وبعدها مباشرة قضية الأسلحة الفاسدة، وأسباب هزيمة مصر فى حرب فلسطين، ثم الثورة المجيدة، لذلك كان لا بد فى المقابل من تضخيم وتفخيم «عرابى» وثورته ومصطفى كامل ومحمد فريد حتى تتزن المناهج.. ورغم مرور 65 عاماً على هذا الحدث فإن مناهج التاريخ المدرسية ما زالت تخضع للسياسة وتغيراتها وتوجهاتها.. وضاعت الحقائق مع أن الكتب موجودة وستظل.. ومن المحزن حقاً أن تشتعل المعارك حول وقائع تحتاج لقراءة هادئة.. ثارت مشكلة منذ أسابيع حول أحمد عرابى.. وهاج وماج فريق ضد آخر، وكلاهما يسب ويلعن ويمدح ويشيد، بينما التاريخ لا يدرس بالحب والكراهية والإعجاب والاستهجان.. قال د. يوسف زيدان إن «عرابى» فأر وجبان، وإن حادث عابدين لم يحدث من أساسه، وهو مخطئ فى هذا، وقال إن «عرابى» كان سبباً مباشراً لاحتلال الإنجليز لمصر، وهو محق، وقال معارضوه إن حادث عابدين حدث، وهم محقون. وقالوا إن «عرابى» كان بطلاً عظيماً لا يشق له غبار، وهم فى هذا مخطئون.. وأصبح له ولهم أنصار وفرق، واشتعل الخلاف، بينما المسألة أبسط من ذلك كثيراً.. العودة إلى الكتاب، فهو الهدوء والموضوعية والحكم الصائب.. وبالنسبة لحادث عابدين فى 9 سبتمبر عام 1881 فقد جاء بالتفصيل فى عدد كبير من الكتب، ولنبدأ بمذكرات «عرابى» نفسه «كشف الستار عن سر الأسرار فى النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية».. قال «عرابى»: اكتمل الجيش فى ميدان عابدين، وكانت الساحة غاصة بالوطنيين والمتفرجين من الأجانب، ونوافذ البيوت المجاورة للسراى والأسطح ملأى بالمتفرجين والمتفرجات.. وعاد الخديو من العباسية ودخل إلى سراى عابدين من الباب الشرقى «باب باريس» وصعد إلى الديوان الخديوى ثم نزل منه وأتى إلى الميدان (ميدان عابدين) ماشياً على قدميه ومعه مستر كوكس، قنصل إنجلترا، وجنرال سميث، مراقب إدارة الدائرة السنية، وجماعة من جاويشية المراسلة الخديوية، فلما «توسط الميدان» طلبنى، فتوجهت إليه لأعرض طلباتى عليه فى ذلك الموقف الرهيب، وكان من خلفى نحو «ثلاثين» ضابطاً وسيوفهم مسلولة بأيديهم، وكنت أمامهم راكباً جوادى وسيفى فى يدى، فلما اقتربت منه صاح مخاطباً بأن أترجل عن الجواد، وأغمدت سيفى وأسرعت إليه.. فلما وقفت بين يديه مشيراً بالسلام إليه فخاطبنى بقوله ما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟ فقلت له: جئنا يا مولاى لنعرض عليك طلبات الأمة وطلبات الجيش وكلها طلبات عادلة، فقال الخديو: وما هى هذه الطلبات؟ فقلت له: هى إسقاط الوزارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبى وزيادة عدد الجيش إلى القدر المعين فى الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية السابق أمركم بوضعها.. فقال الخديو: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا. فقلت له: نحن خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً، فوالله الذى لا إله إلا هو إننا لا نورث ولا نستعبد بعد هذا اليوم. انتهت أقوال «عرابى» عن الحادث بهذه الجملة التى لا توجد لها أى إشارة فى باقى كتابات المعاصرين للحدث، وكانت جريدة الأهرام قد أرسلت محرراً لها ليتابع الحدث، وأنصت للحديث ولم يذكر هذه العبارة.. وفى كتاب سليم النقاش «مصر للمصريين»، وكان شاهداً على الحدث، قال عن الحديث: سأل الخديو: وما هى أسباب حضورك بالجيش هنا؟ فقال «عرابى»: لنوال طلبات عادلة.. فسأله: وما هى هذه الطلبات؟ فقال «عرابى»: هى إسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد، فقال الخديو: كل هذه الطلبات ليست من خصائص العسكرية، فلم يجبه «عرابى»، وقد أشار القناصل على الخديو أن يتوجه إلى داخل السراى.. وهناك ثلاثة اختلافات فى رواية «عرابى» عن رواية سليم النقاش.. أولاً: العبارة التى ذكرها «عرابى» وقالها فى وجه الخديو توفيق، وثانياً أن الضباط المحيطين بـ«عرابى» كانوا عشرة فقط ولم يكونوا ثلاثين. وثالثاً: قال «عرابى» إن الخديو توفيق خرج من السرايا وسار إلى وسط الميدان، بينما تجمع كل الروايات على أن الخديو كان واقفاً عند مدخل السراى أمام السلاملك، حيث تقدم له «عرابى» عندما نادى عليه، والغريب أن الصورة الشهيرة التى رسمت عن الحدث تثبت مكان وقوف الخديو، وأيضاً عدد الضباط الموجودين، ويؤيد المؤرخ عبدالرحمن الرافعى نفس الرواية فى كتابه «الثورة العرابية».
أما المؤرخ ميخائيل شاروبيم بك، صاحب كتاب «الكافى»، وفى الجزء الرابع، فيسرد حكاية أخرى.. تقدم الخديو وسار نحو أحمد عرابى وعبدالعال حلمى، وأشار لهما بالسلام، فسلما بالاحترام والوقار، فقال لهما: ما لكم قد نبذتم عن طاعتى وعصيتم أمرى؟ فقالوا: حاشا، نحن عبيدك المخلصون، فقال: انصرفوا وسأبذل جهدى فى تحسين أحوال العسكرية وتنظيم قوانينها على قواعد ثابتة، فأجاب «عرابى»: إنى وإخوانى وجميع الضباط وأفراد العسكر خاضعون لك يا مولاى وكلنا لا نبرح من هذا الموقف حتى تنجز لنا ما طلبناه، فقال له الخديو: رد سيفك إلى غمده، فأجاب: سمعاً وطاعة، وناول الخديو ورقة وقال: هذه يا مولاى مقترحات الوطن وبنيه، فأخذها الخديو ورجع إلى السراى، وما هى إلا ساعات واستجاب الخديو توفيق لطلبات «عرابى» وأصحابه، وسقطت وزارة رياض باشا وتولى شريف باشا الذى طالب به الضباط.. المهم الآن والتفسير للدكتور يونان لبيب رزق.. لماذا قال «عرابى» هذه العبارة التى لم ترد إلا فى روايته هو فقط؟ هل هى تهيؤات البطولة التى شعر أنه يستحقها وحُرم منها بعد الاستقبال الفاتر الذى قوبل به من الحركة الوطنية بعد العودة إلى أرض الوطن؟ أم هو عنصر الزمن وما يفعله فى ذاكرة الإنسان؟ وهل نحن الآن نفعل مثل «عرابى» ونقول كلاماً من الذاكرة عرفناه من كتب قرأناها منذ زمن بعيد؟ ونترفع عن قراءتها مرة ثانية؟
وهل من المنطق أن تدخل النخبة فى شجار حول عبارة خيالية ما زالت موجودة بإصرار وعناد فى المناهج المدرسية؟ وهل نترك التاريخ فريسة للأمزجة السياسية حتى صار الشباب لا يثق فى النخب ولا حتى فى أوراق الكتب؟