م الآخر| منظار القناص
تحرك منظار "القناص" ببطء، فشرع يمسح تفاصيل الشارع بالأسفل، لا أحد يتصور كم الثقة والبهجة داخل القناص، إنه ملك المدينة غير المتوج، كل أرجائها ملك يمينه، كلها حبيسة دائرة منظاره.
علامة (+) في منتصف المنظار حائرة، ترى من القادم؟!
هناك الطريق الإسفلتي الأسمر، ثم بعض الأبنية المتهدمة عليها أعلام سوريا، وكذلك الحديقة ذات الثوب الأخضر الممتد، العلامة (+) تزور خيام الحديقة، حيث ارتص عدد منها على مسافات متباعدة، تقترب الكاميرا بصورة بطيئة من أحدها، فتركز النظر على طفلة صغيرة ، طفلة رقيقة مثل قطرة ندى، نضرة مثل شعاع بكر من أضواء الفجر، حزينة مثل قمر يتدارى وراء الغمام.
فردت الطفلة ذراعيها أمام الأفق.
في هذه اللحظة، خرجت الأم من باب الخيمة، وعلا صوتها مناديا:
- أمل، تعال يا حبيبتي، ما الذي تفعلينه عندك؟
لم تجب الصبية، وإنما ظلت جامدة على نفس الوضع، فاتجهت إليها الأم مهرولة، وجذبتها من ذراعها عائدة:
- ألم تسمعيني؟ قلت لك ألف مرة أن الابتعاد خطر؟ - واحتضنتها - لا أطمئن عليك في وطن غير حضني..
التفت الابنة بعينين سعيدتين:
- أنا لم أبتعد، وإنما كنت أطلب من جنية الليل أمنية.
-؟؟؟
أغمضت الفتاة عينيها، وتكلمت بنشوة الحلم: أتمنى أن نموت جميعا سويا، حيـ...
الأم تهزها في قوة:
-أمل، ماذا تقولين؟
- ... ــث لا يبقى أحد، يتعذب بفراق الآخرين.
التقطت جنية الليل عبارة الطفلة المزلزلة، وارتقت بها إلى عنان السماء، حتى بلغت مسامع القناص في الأعلى، أبعد العسكري منظاره بروية، ابتعد تاركا الأم لصدمتها، والطفلة لحلمها الغائم.
لم تعد للبندقية حاجة لاقتناص أيهما، فقد قتلت فيهما - فعلا - ما هو أغلى من الروح.