أهل النجاة
بعزم من تمّرس على النهوض من كبوات الهوى، وصد ضربات الفراق الموجعة، احتفظ لنفسه بما تبقى له من قلب، ولم يكن إصراره "سداً لبيبان الريح"، التي دائما ما تجلب ما لا يُريح، ولم يكن أيضا كفرا بدين العشق، إنما هو ذاك "الزُهد"، الذي حاولت هي أيضا أن تحتمي وراء أسواره العالية، وكأنما أرادت أن تنفي عن نفسها تهمة الخضوع لذلات قلبها، فذلات القلوب، تُعدَّها الذاكرة خطايا لا تُغتفر، ويُذكر أنه على الرغم من صدق نواياهما، زادهما إصرارهما قوةً، ليغفرا كذب ذلك الشبع المصطنع، الذي يُغني جوع كل من وهب نفسه قربانا لآمان الوحدة.
لم يكونا وحيدين، بكل ما تحمله الكلمة من ألم، هي اعتادت اختلاس بعض الوقت من يومها لممارسة هواياتها المفضلة، والتي كانت إحداها، الكتابة، ولم تكن حينها تدري بأن الأقلام وفية لأصحابها، تُنصت إليهم، وتتحدث نيابة عنهم، وإن أبوا هم الاعتراف لأنفسهم بشرعية هذه الأحلام، التي قطعوا وعودا مع قلوبهم بعدم الاقتراب منها، درءا لمفاسد التعلق، ولكن من ذا الذي يصمد أمام بوح الأقلام طويلاً، إن هي اشتهت الاعتراف سرا وعلانية.
أما هو، فبكل الحرص على اتقان دور الزاهد، اللامبالي بأمور العشاق، قرر أن يمنح وقته لعمل، إن أعطاه.. اعترف، وإن هو اجتهد فيه.. نال ما يستحق من مكانة، كما كرّس بعضا من وقته لمجالس الرجال، تعلو ضحكاتهم أحيانا، يتجاذبون أطراف الحديث أحيانا أخرى، ويهربون إلى معسكرات "لا نسائية" كثيرا، أحدهم هربا من ذكرى حب قديم تحتل ذاكرته، أما الآخر فهروبه خوفا من الوقوع فريسة لتلك الجميلة التي تعّرف عليها حديثا.. تختلف قصة كل واحد منهم عن الآخر، وإن جمعتهم تلك الشكوى الأكثر شيوعا، لا نعرف ما تريده النساء.
وبينهم، كان هو لا حزينا ولا فرحا، متماسكاً ربما، ما إن تراه حتى تظنه بأفضل حال، لا ينقصه شيئا مما ينقص ذوي القلوب العامرة بصخب العشق وفوضاه، أما هي فلم تزدها محاولات العديد التقرب منها، طمعا في اختراق حصون تلك القلعة التي سكنتها، للفوز بقلب تلك المتكبرة، إلا إصرارا على البقاء كما اختارت لنفسها أن تكون.. حرة هكذا، لا تنتظر أحدا، ولا يُضنيها حنين إلى من باعدت بينه وبينها المسافات، ولا هي متورطة أيضا بأكثر من التعاطف مع شكوى صديقاتها مما يفعله الحب بأصحابه.
استمرت هي في تصنع الاكتفاء بتلك الأحلام، التي ملأت فراغ أوراقها، وألِفَ هو عِشرة ذلك الصديق الوفي، الذي وجده داخل نفسه، والذي ساعده على الصمود كثيرا، فاكتفى به ورضى عنه، وبين صدق تصنعها، ووفاء ذلك اللامبالي بداخله، شاءت أقدارهما شيئا آخر، أعدت لهما جنة تليق بالصابرين من أهل الأض، وربما لعبت دور شاهد الاثبات لوفائهما لعهودهما التي قطعاها مع قلبيهما، فأعدت لهما جزاء من جنس العمل، وربما شاءت أن تخلق لأحلامهما، أقداما تحملهما دون عناء إلى سبيل يجمعهما سويا، ليُخلق بينهما عشقا، مُبّرءا من كل عيب.
بدأ من حيث ينتهي عادة من ظنوا أن عشقهم أبديا، أو أنه خُلق خصيصا لهم، وحّد بينهما ذلك اليقين، الذي ظنا أنهما لن يصلا إليه إلا بتحقق إحدى المعجزات، عرفا للمرة الأولى كيف يكون العشق، واكتشفا أن له قوانين خاصة، بعيدة كل البعد عما اعتادا سماعه من شكوى الأصدقاء، ومنزهة عن أخطائهما السابقة بحق أرواحهما، بخطى ثابتة، تحسست أقدامهما ذلك السبيل الجديد إلى أنفسهما، لا لكونهما شديدي الحرص على عدم السقوط، بل لكون الطريق ممهدا من قبل قدومها، حتى ظنا أن إحدى الملائكة سُخرت لهما من قبل خلق الله آدم، لتُمهد إلى أرواحهما لقاءً تسكن به أوجاعهما، لقاءً لا يشترط قُدومهما ليثبت حضورا، لقاء أشبه بامتزاج سحابتين، لايدرك الناظر إليهما من أين جاءا ولا كيف اقتربا، فتآلفا، فامتزجا، فتوحدا، فذابا، فسقطا سويا، حتى ظنهم المارون انتهيا غرقا... وفي غرقهما نجاة ..لا يعرف مذاقها إلا أهل النجاة.