ثمة صناديق فى الشارع المصرى لا يهتم برصد نتائجها أحد، رغم أنها مليئة عن آخرها ببطاقات التصويت الصحيحة، التى حازت فيها خانة (الغضب) على أغلبية مطلقة تشبه الإجماع. بعكس خانة (الرضا) التى لم تحظ إلا بنسبة منخفضة.
وكان مدهشاً للمراقبين والمتابعين لهذا الاستفتاء اليومى، تلك الجملة الإضافية التى أصرت الأغلبية على كتابتها بجوار العلامة (أن النظام والمعارضة عايزين الحرق) وحينما تأملت تلك النتائج الصارخة، أيقنت -كما أوقن دائماً- أن الناس على حق، لأن الإجماع لا يتحقق لباطل، باعتبار الإجماع أحد مصادر التشريع فى الفقه الإسلامى، وأن مصالح العباد هى عماد شرع الله.
أما فسطاط الحكم، فلم يعد فى حاجة إلى المزيد من السهام الجارحة أو الطائشة، فأهل الحكم قد أصابتهم حالة إدمان للهجوم والنقد والسخرية، للدرجة التى جعلتهم يقلقون لو خفت صوت القصف ساعة واحدة، فنراهم يخترعون قراراً أو تشريعاً كارثياً، ليستمتعوا بغبار المقاومين، وصهيل خيل الرافضين لهم، ويعتمد أهل الحكم على منعة حصونهم المشيدة، ودروعهم الصخرية، التى لا تؤثر فيها القنابل الفتاكة، بالإضافة إلى حالة اللامبالاة والبرود الثلجى، التى تدرّبوا عليها سنين عدداً، فالمهم هوا استمتاعهم بالسلطة حتى آخر نفس، على طريقة المثل (شبعة من بعد جوعة) ومن أجل ذلك فهم جاهزون لسبّ الشعب والمعارضة، وتكبر فى أعينهم الصغائر، إذا كانت عليهم وتصغر فى أعينهم عظائم الأمور إذا كانت فى مسئوليتهم، فالمقاومة السلمية بلطجة، والعصيان المدنى تخريب قلة مدفوعة الأجر، والدماء التى تسيل مجرد حوادث سير.
أما إذا قلت لهم إن الاقتصاد على وشك الانهيار، فسيردوا بثقة: إن الموضوع بسيط وليس بهذه الدرجة من التهويل وعلينا أن نصبر ونعطيهم فرصة. ولو قلت إن الناس على وشك الانتحار جوعاً وفقراً ومرضاً، وإن غلاء الأسعار سيلتهم أصحاب الدخول المحدودة، سيقولون لك: لا تبالغ، فترد عليه إن مخزون السلع الاستراتيجية سينتهى قبل أسابيع، ساعتها ربما يمط شفتيه ويبتسم، مضيفاً: إنها التركة الثقيلة التى ورثناها من نظام مبارك، فتسأله بمنتهى الجدية، إنت عندك دم؟ فيجيب بمنتهى الجدية أيضاً: ستجده إن شاء الله فى بنك الدم، فتضطر إلى سؤاله: هل عندك ضمير؟ فيضحك حتى يستلقى على ظهره كمن فوجئ بالسؤال، فيرد بخفة دم مصطنعة: لا للأسف لقد تخلّصنا منه وتبرّعنا به لجبهة الضمير.. ولكنك وقبل أن تصاب بجلطة فى المخ ترمى إليه بسؤالك الأخير: هل عندك دين أو إيمان؟ فيجيب بحرفية الفقيه الدستورى المعروف صبحى صالح: لا يا صديقى، فالملف الخاص بالدين والشريعة أعطيناه لقطاع من الإخوة السلفيين، فهم أولى به..
الناس فى الاستفتاء اليومى رفضوا أهل الحكم، لا كراهية لهم -معاذ الله- بل لأنهم أصبحوا يفتحون عيونهم كل صباح على كارثة جديدة وأزمة مستمرة بلا حل، أو قدرة على الحل، أو حتى رغبة فى الحل، بينما يبدو أصحاب الحكم يعبون كل يوم من لذائذ السلطة، ويؤثرونها على عشيرتهم دون غيرهم.
أما فسطاط المعارضة فحدث ولا حرج، فالهجوم يطالهم من فوقهم ومن تحتهم، ومن أمامهم ومن ورائهم، يبدأ النقد فى البداية حاسماً ويقينياً: (إنهم يجلسون فى الغرف المكيّفة والمكاتب الفخمة ولا يشعرون بنا) وتعتبر هذه الجملة من أقدم الاتهامات فى نقد النخبة، تستخدمها القواعد الحزبية فى المحافظات لتواجه بها القيادات المركزية فى القاهرة، ويرددها الناس من خلفهم كدلالة على انفصال النخبة عن الواقع.
لكن الجمع بين اتهام الحكم والمعارضة فى هذه المرحلة تحديداً يحمل عناصر كثيرة ليست فى صالح المعارضة، فقد عرفوا الحاكم الظالم طوال تاريخهم، وحينما تتحول المعارضة إلى طرف ظالم فقل على السياسة السلام، فالجمهور الذى اكتوى بنار الجماعة كان يطمح فى بديل عن الحكم، والبديل لا يعنى فى الرأى الشعبى برامج نظرية وأطروحات علمية، لكنه يعنى القدرة على إزاحة السلطة، وبالطبع أى قراءة لواقع المعارضة بجبهة أو بدون جبهة، سيعرف الإجابة، والناس لن يموتوا بغيظهم حينما يشاهدون السلطة تنسحب وتتقهقر عاجزة ويرون المعارضة لا تتقدم لشغل هذا الفراغ، فماذا يفعل العقل للجمع المصرى إزاء هذه الحيرة والارتباك أو ما يسميه البعض بتوازن الضعف بين الحكم والمعارضة، فيجد الضمير الجمعى نفسه مضطراً إلى استدعاء الجيش باعتباره رمانة الميزان وحائط الأمان التاريخى للدولة المصرية، وهذه الدعوة تعنى وفاة السياسة والنخبة كما تعنى الثقة المطلقة فى الجيش المصرى.
فالشعب الذى ترك عملية المشاركة طويلاً نتيجة القيود والطوارئ والفقر كان لا يثق فى العملية السياسية، لكنه بعد ثورة يناير عاد بقوة ليراهن على نفسه، تاركاً الحكم والمعارضة يلعبون لعبة شد الحبل، فقدّم هذا الشعب العظيم وطليعته الشابة أغلى الدماء والتضحيات، لكن الطرفين -فى القراءة الشعبية- باعوه وتركوه وحيداً ووصموه معاً بحزب الكنبة، فأصبح لسان الحال يقول: نعم نحن حزب الكنبة، لكننا لا نريد أحداً منكم يجلس عليها، لأنكم معاً (عايزين الحرق)..