فى اليوم الثانى للمظاهرات الإيرانية، احتجاجاً على الغلاء وازدياد الفقر ورفع الدعم عن 34 مليوناً، دعا الرئيس روحانى إلى الاحتجاج السلمى، باعتباره حقاً للمواطنين، ووعد باتخاذ إجراءات تُخفّف من الأعباء الاقتصادية، وأنهى حديثه بالقول إن «شعبنا رأى كثيراً أحداثاً مشابهة، وتمكّن من تجاوزها بسهولة»، فى إشارة إلى أن هذه الاعتراضات الشعبية لن تنال من نظام ولاية الفقيه. بعض المحللين الداعمين للنظام الإيرانى يرون أن الجمهورية الإسلامية أنشئت أصلاً من خلال حركة شعبية أطاحت بحكم الشاه، وأن لدى أجهزتها الأمنية ميراثاً طويلاً من الخبرات التى تُجهض أى عمل شعبى مضاد، ويذكرون بأن مظاهرات 2009 التى كانت ضد تزوير الانتخابات لصالح ممثل المتشدّدين أحمدى نجاد كانت أكبر عدداً، لكن «الباسيج» (قوات التعبئة) والحرس الثورى استطاعا إخمادها، كما تم وضع قائديها مهدى كروبى وحسين موسوى فى الإقامة الجبرية، وانتهى الأمر. الخلاصة لدى هؤلاء أنه لن يطول الأمر، وإذا بهذه المظاهرات قد طواها النسيان، فليس هناك قائد لها، وهى ليست أكثر من موجة غضب على أوضاع معينة يمكن التعامل معها من خلال إجراءات حكومية وأمنية سريعة.
مثل هذا التحليل الشكلى يذكّرنى بما حدث مطلع عام 2011، فبعد أيام قليلة من سقوط نظام زين العابدين فى تونس، كانت تُعقد فى شرم الشيخ القمة العربية الاقتصادية والاجتماعية الثانية 15 و16 يناير، لدفع التعاون الاقتصادى العربى، بهدف احتواء التغيّرات الاجتماعية عربياً، نتيجة التحولات فى البنية السكانية، وارتفاع معدلات الشباب وازدياد مطالب العمل والتشغيل. وقبل يومين من أولى المظاهرات المصرية 18 يناير، وجّه سؤال إلى كل من الرئيس مبارك، وعمرو موسى أمين عام الجامعة العربية آنذاك، حول احتمال تأثّر مصر أو دول أخرى بما جرى فى تونس، وكانت الإجابة واحدة تقريباً، بأن لكل دولة ظروفها الخاصة، وما جرى فى تونس يخص التونسيين وحدهم، والوضع هنا مختلف عن الوضع هناك. ثم حدث العكس تماماً بعد يومين من تلك التصريحات. لم يتصور أحد أن هناك قواسم مشتركة، وأن الشعوب تؤثر فى بعضها البعض، بما يُعرف بظاهرة «العدوى».
الشىء نفسه نراه فى الحالة الإيرانية، ففيها يتجسّد العاملان الرئيسيان اللذان يدفعان أى شعب للثورة على حكامه، وهما التهميش السياسى والحرمان الاقتصادى. فالمواطن الإيرانى وغالبيته من الشباب المتابع لما يجرى فى العالم يرى نفسه مستبعَداً من المشاركة بمعناها العام، وأن حقوقه فى النقد عبر وسائل الإعلام والتجمّعات السياسية مقيّدة دستورياً وقانونياً، ومسألة الصراع أو التنافس بين جناح متشدّد وآخر معتدل، هى بدورها محكومة بما يسمح به المرشد الأعلى، وسقفها محدود، فضلاً عن أن المؤسسات الأمنية وشبه العسكرية التابعة للمرشد الأعلى تسيطر على كل شىء تقريباً، وتحصل أيضاً على النسبة الأعظم من موارد البلاد الاقتصادية والمالية، وكلمتها مسموعة ولا يمكن ردّها، وإلى جانبها مؤسسة الملالى التى تمارس سطوة سياسية بنكهة دينية ذات طابع مقدّس، وهى التى تضع منظومة القيم الاجتماعية وتحاسب من يجرؤ على نقدها أو تجاوزها حساباً عسيراً.
الشىء الثانى فى الحالة الإيرانية هو ما يتعلق بتأثير العدوى على النطاق الإيرانى نفسه، فالمظاهرات بدأت فى مشهد، ثم انتقلت إلى أصفهان وطهران وشيراز وتبريز وأهواز وخرمشهر وقم وكرمنشاه ورشت وعدد من المدن الصغيرة والبلدات الريفية. وهو أمر منطقى فالإيرانيون جميعاً سواء فى الريف أو المدينة يعانون الحجم نفسه من المعاناة، وتزيد النسبة فى المدن البعيدة والقرى والبلدات التى تفتقر إلى الخدمات والموارد والإنتاج الاقتصادى وترتفع فيها معدلات البطالة لتصل إلى 40%، فى حين أن النسبة العامة المُعلنة رسمياً هى 11%. وبالتالى فالمعاناة واحدة والرغبة فى الاحتجاج والغضب منتشرة وموجودة فى طول البلاد وعرضها، وفى كل الفئات الاجتماعية. وفى الوقت نفسه تكاد الفئة الحاكمة تكون معزولة عن تلك الهموم، فهى تحصل على القروض من البنوك دون ضمانات، وإن لم تُسدد ما عليها فلن يحاسبها أحد، وتقارير البنك المركزى الإيرانى ترصد حالات متزايدة من البنوك المفلسة، وإن لم تعلن ذلك صراحة.
بُعد آخر يفيد فى توقع ما قد يحدث، ففى أثناء الحملة الانتخابية التى فاز فيها الرئيس حسن روحانى، كان شعاره الرئيسى هو تحسين الوضع الاقتصادى، استناداً إلى أن التزام إيران بالاتفاق النووى سوف يتبعه الحصول على تدفقات مالية من الأموال التى جمّدتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التى تُقدّر بأكثر من 200 مليار دولار، وسوف تأتى الاستثمارات من الخارج بعد رفع العقوبات، وسوف يستعيد الاقتصاد الإيرانى عافيته فى مجالات النفط والخدمات والزراعة. مثل هذه الوعود خلقت ثورة توقعات كامنة لدى عموم الإيرانيين، ثم حدث ما لم يتوقعه أحد، فالتغير الذى أصاب الولايات المتحدة مع انتخاب الرئيس ترامب المناهض تماماً للاتفاق النووى والرافض أن تحصل إيران على التدفّقات المالية المتفق عليها، أو ترفع عنها العقوبات، والرافض بشدة لسياستها فى التمدّد الإقليمى، أدى فعلياً إلى توقف الاستثمارات الأوروبية الكبرى التى كانت تسعى إلى فرصة العمل فى إيران، وبالتالى تراجع الوضع الاقتصادى. وهنا كانت الصدمة التى ضربت عقول ونفوس الإيرانيين. فبدلاً من تحسّن الوضع الاقتصادى تضمّنت الميزانية التى قدّمها الرئيس روحانى على نوع من العقاب الجماعى، من خلال خفض حاد لمخصّصات الدعم ورفع أسعار الوقود وتراجع الأموال المخصّصة للمعاشات والتعويضات الاجتماعية، وتوقف بعض المشروعات ذات الطابع الاجتماعى للفئات الفقيرة، فى الوقت نفسه زيادة المخصّصات للإنفاق العسكرى والأمنى إلى 11٫4 مليار دولار.
وقد يمكن تبرير مثل تلك الإجراءات الحادة، باعتبارها نتيجة حتمية لحالة الحصار التى تتعرّض لها البلاد، لكن الأمر يتضمّن تناقضاً فادحاً، حيث لم يتم تخفيض الإنفاق العسكرى والأمنى، الذى يوجّه الجزء الأكبر منها للتمدّد فى الخارج، وهو ما يأتى على حساب مستوى المعيشة لعموم الشعب. وهو تناقض يفسّر كل الشعارات التى رفعها المتظاهرون ضد المرشد وروحانى وقطع صورهما فى تصرّف يعكس جرأة وغضباً عارماً وتجاوز خط الخوف.
الوارد بقوة أن تنزل قوات «الباسيج» والحرس الثورى للإجهاز على تلك المظاهرات الشعبية بعنف، لكن الوارد أيضاً أن تستمر المظاهرات، وتتنقل من مدينة إلى أخرى، ومن حى إلى آخر لفترة قد تطول، شهراً أو أكثر. وعندها ستدخل إيران مرحلة أخرى، حتى لو ظل الولى الفقيه موجوداً على الورق.