عندما تغيب الأدوار الحقيقية البنّاءة للمجتمعات أو للأوطان أو للأمة، أياً كانت صغيرة أم كبيرة، ينشأ فراغ هائل لا يملأه إلا التحديات والأخطار حتى يعم اليأس ويسود. ومن تلك الأخطار والتحديات انتشار الطائفية، وهى نوع من أنواع الجاهلية والتجهيل، تبعث على التشتت، ولا يجد أصحابها غضاضة فى الاستعانة حتى بالأجانب ليقفوا إلى جانبهم، فإذا بهم يحتلون البلاد بدلاً من العمل على تحريرها، وإذا بهم يذوقون مرارات الاستبداد والظلم والهيمنة التى ظنوا أنها الملجأ الآمن لهم.
سافرت يوم الجمعة الماضى إلى لندن، لحضور المؤتمر الدولى السابع للتقريب بين المذاهب الإسلامية. انعقد المؤتمر يوم السبت 21/9/2013 فى قاعة مؤتمرات المركز الإسلامى فى إنجلترا فى منطقة المايدافيل فى قلب لندن، وعدت إلى القاهرة مساء السبت للمشاركة المتواصلة فى اجتماعات لجنة الخمسين للتعديلات الدستورية. شارك فى المؤتمر مجموعة كبيرة من العلماء والفقهاء والدعاة من السنة والشيعة من مصر واليمن وإيران ولبنان والعراق والخليج وغيرها من بلدان العالم العربى. كما شارك فى المؤتمر اللورد نظير أحمد، المعروف بوسطيته واهتماماته بالأقلية المسلمة فى بريطانيا، ومجموعة من رجال أهل الحديث من بريطانيا وباكستان.
لم تكن المؤتمرات الدولية الست السابقة ترفاً فكرياً، بل كانت تركيزاً جاداً على طبيعة التحديات التى تواجهها الأمة وتعبيراً عن تطلعات الأمة فى المستقبل الذى يليق بها. عالجت تلك المؤتمرات كلها العديد من المسائل الضرورية التى تتعلق بأصل التقريب بين المذاهب وفلسفته وطرائقه، كخطوة أساسية مهمة للوحدة المنشودة والمأمور بها شرعاً وعقلاً.
خطاب التقريب يجب أن يكون خطاب المحبة والعفو والتسامح، لمواجهة خطاب التكفير والكراهية، لما للتقريب من دور مؤثر فى بناء الإنسان والمجتمع والمؤسسات، والدفع باتجاه تنمية هذا المجتمع وتطويره، بتذليل التحديات وتهيئة الفرص المشتركة التى يلتقى عليها العرب والمسلمون لمواجهة سياسات الإقصاء وفتاوى التكفير والجهل، التى لم ترجع على الأمة والإنسانية إلا بالمزيد من المعاناة والألم والخسارة. فالطائفية لم تعد سلاحاً عادياً بيد أعداء الأمة، إنّما أصبحت من أخطر الأسلحة، ومن أخطر أساليب تدمير العالم العربى المسلم والمجتمعات الإسلامية وحتى الإنسانية بشكل عام.
إن مشروع التقارب والتقريب بين العرب أولاً والمسلمين ثانياً والأحرار فى العالم ثالثاً، بات أمراً ملزماً لكل من يتبنى سلامة هذه الأمة، لمواجهة التحديات والأخطار وتداعيات الطائفية الخبيثة على سلامة الإنسان والمجتمع. لا يأتى هذا إلا من خلال الجهود العملية والبرامج الجادة وبناء المؤسسات التى تخدم الحوار والتقريب والتقارب والوحدة العربية والإسلامية. إن التقريب مشروع للبناء من أجل تنمية قدرات الأمة، ولابد أن يمارس كلّ منا دوره فى البناء وتجسيد تيار التقريب سلوكاً وعملاً وبرامج ومؤسسات، وليس خطاباً فحسب، من أجل حماية الإنسان والمجتمع وتنميتهما، فى ظل أجواء الوئام والتقارب الذى هو رسالة ذوى المشاريع التغييرية الكبرى، لما يوفر لهم من وحدة الصف والتعاون الخالص.
هنا تتأكد الحاجة لتعميق الدور العملى للتقريب فى مواجهة المشروع الطائفى المقيت الذى يراهن عليه أعداء الأمة لتشتيتها وإضعافها. الطائفية شعار يروجه داعمو أنظمة المشروع الاستبدادى، وهى وسيلة للتجهيل ولا تمت الطائفية بصلة، إلى التنوع والتعددية الفكرية بالمرّة، ولا تعالج بالعاطفة، وإنما بالعقل والتدبر والحوار الجاد. وهنا ينبغى أن يأخذ المعنيون جميعاً دورهم فى بناء مؤسسات التقريب وترجمة أفكاره وثقافته وقيمه سلوكاً وبرامج عمله، وهنا يتجلى دور مؤتمرات التقريب وفى مقدمتها المؤتمر الدولى السابع للتقريب بين المذاهب الإسلامية تحت عنوان: (دور التقريب فى مواجهة الطائفية وحماية المجتمع) بحضور تيار التقريبيين من العلماء والمفكرين والأساتذة المتخصصين من بقاع مختلفة، باهتماماتهم المتنوعة، والحريصة على إنجاح هذا المشروع الإسلامى فى حفظ وحدة الأمة وسلامتها من الأخطار.
أقرّ المجتمعون فى هذا المؤتمر من بين ما أقروه نقطتين مهمتين: منها ضرورة المضى قدماً وبثبات فى طريق التقريب والوحدة الإسلامية رغم كل المعاناة والإيذاء الذى يواجهه تيار التقريبيين فى المجتمع. ولا تتحقق أهداف هذا المشروع العظيم بالخطابات وحدها. وفى هذا الإطار يؤكد المؤتمرون على تفعيل الأساليب العملية من خلال وثيقة تعاون بين التقريبيين أنفسهم على أن تطور هذه الوثيقة بأمرين مهمين هما: طرح الأساليب الكفيلة لتحقيق الجانب العملى من التقريب، ثم تأييدُ الوثيقة ودعمُها من قبل علماء الامة ورموز التقريب، لأنها خطوة كبيرة فى طريق تأمين الأمن الاجتماعى للبلدان العربية الإسلامية.
والنقطة الثانية المهمة هى أن الطائفية أخذت أبعاداً خطيرة تهدد سلامة العقيدة والوحدة الإسلامية، بعد أن استخدمها أعداء الأمة وجهّالها، أسلوباً لتمرير المصالح الأجنبية والضارة على حساب مصالح الأمة، وهنا تتضح أهمية الموقف المشترك لفضح هذا المشروع التدميرى، ومن جهة أخرى الارتفاع بوعى الأمة ودرء الأخطار عنها، من خلال برنامج عملى فاعل، يعتمد التنسيق بين مختلف الأطراف الذين يتضررون بالطائفية. وهذا هو الجانب النظرى الذى لا يملك المؤتمرون سواه، ويبقى الجانب العملى لمن يستطيع إليه سبيلاً.