«الوطن» تنشر مقال الدكتور طه حسين: اعتكاف
رئيس وزرائنا (إسماعيل صدقى باشا) معتكف يريد أن يستريح ثلاثة أيام بعدما كلفته المفاوضات (مع الوفد الإنجليزى) من عناء وما حملته شئون الحكم من أعباء. والاعتكاف مستحب فى رمضان، فأصحاب النُّسك والطاعة العاكفون فى بيوت الله يبتغون العبادة وما وراءها من ثواب ويتخففون من أثقال الدنيا وأوزارها، والمعتكفون فى بيوت أنفسهم قد يبتغون شيئاً ليس أقل خطراً من العبادة والطاعة ولا أهون منهما شأناً، وهو محاسبة النفس على ما قدمت إلى الناس وما تلقت منهم. ورئيس الوزراء يعلم المآرب التى يبتغيها من اعتكافه، وقد أنبأ الصحفيين بأنه يريد أن يستريح، ولكن رئيس الوزراء ليس من الذين يألفون الراحة الفارغة، وإنما هو رجل عامل حين يتعب وحين يستريح. ولرئيس الوزراء على نفسه حق من جملة هذه الأمانة الثقيلة التى لا يحملها إلا أولو العزم من الرجال، وهى أمانة التدبير لشئون الناس والتصريف لأمورهم، وهذا الحق هو محاسبته لنفسه، فاعتكاف رئيس وزرائنا فى ضيعته ليس راحة خالصة كما قدر الذين لا يعرفونه.
ولرئيس الوزراء علينا جميعاً حق حين يعمل وحين يستريح، فحقه علينا حين يختلف إلى ديوانه فى الرياسة أو فى وزارة الداخلية أن نراقب عمله ما أتيحت لنا هذه المراقبة، وأن نثنى عليه حين يصيب وننتقده حين يخطئ. وأشد الناس حباً لرئيس الوزراء وإكباراً لكفاياته الممتازة مضطرون إلى أن يعترفوا معنا بأنه لم يُتِح لنا الفرصة التى تمكننا من الثناء عليه، لأنه لم يقدم إلينا خيراً منذ وثب إلى رياسة الوزراء، وأتاح لنا فرصاً كثيراً لنقده ولومه والعَتَب عليه، لأنه تورط فى أغلاط لا تُحصى، ووضع أصابعه فى أذنيه فلم يسمع للنصح ولم ينتبه للخطأ.
ومن حقه علينا أن نيسر له هذا الحساب ونهدى له أسبابه ووسائله، فنذكره إن نسى وننبهه إن غفل ونعرض عليه بعض حقائق الحكم لينظر إليها لعله يراجع نفسه.
ورئيس الوزراء يذكر أنه قد عاهد الله والناس أمام السلطان حين تولى شئون الحكم للمرة الثانية، وأكبر الظن أنه لم ينسَ ماضيه ولم يغير منه شيئاً ولم يجدد فى سياسته قليلاً ولا كثيراً، وإنما استأنف طريقه فى هذا العام من حيث وقف حين أُقصى عن الحكم منذ ستة عشر عاماً، فألغى الحرية وعطل الصحف وداور وناور، وعوَّد المثقفين زيارة السجن وطول الإقامة فيه، وذكَّر الشعب بأن الاجتماعات يمكن تفريقها بالعنف وبأن المظاهرات يمكن قمعها بالبأس والبطش. وساس الأمور الخارجية على النحو القديم، فأرضى ولم يفاوض فى وزارته الأولى حين ذهب لمقابلة وزير الخارجية البريطانية فى سويسرا، وفى وزارته الثانية حين استقبل فى مصر رسل الخارجية البريطانية، وما زال الجلاء فى حرز حريز، وما زال السودان ينتظر أن تخلصه من الإنجليز! رضى رئيس الوزراء أن يشاركنا الإنجليز عين المشاركة وأشدها التصاقاً بالكرامة الوطنية، وهو الدفاع عن مصر، فلن نفكر فى جيشنا ولن ننقل وحداته من مكان إلى مكان داخل أرض الوطن إلا بعلم من الإنجليز وإذن منهم، (وفق بنود اتفاقية الجلاء التى لم تُوقع)، والظريف الطريف أن الإنجليز يأبون قبولها لأنهم يطلبون أكثر منه.. والإنجليز يمتنعون وساستنا وينشدون قول امرئ القيس: «أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل، وإن كنت قد أزمعت هجرى فأجملى»، رئيس الوزراء لم يبلغ سنه التى بلغها دون أن يقرأ فى الكتب ويسمع من الناس ويفهم فهم اليقين أن الشعوب لا تُحكم بالعنف ولا تُساس بالإكراه، وهى قد تُحمل على ما لا تريد وقتاً يقصر أو يطول، ولكنها مستردة حقها آخر الأمر.
ولو أن رئيس وزرائنا يحكم الشعب المصرى عن رضا منه، لما احتاج إلى أن يصادر الحرية ولا أن يعطل الصحف ولا أن يلقى الأحرار فى غيابات السجون. ولو علم الإنجليز أن رئيس وزرائنا متمتع بثقة الشعب لساروا معه سيرة أخرى، وأهمس فى أذن رئيس الوزراء أن فى السجون قوماً قد صودرت حرياتهم بغير حق ومن ورائهم نساء وأطفال وآباء وأمهات ينتظرون أن يروهم فى هذا الشهر الذى لا يحب الله فيه قوة ولا عنفاً. فليفكر «صدقى» باشا فى هذا كله، وليحاسب نفسه وليستخر الله. وأنا أرجو أن يختار الله له «الخير» إذا صدقت نيته ونسى الدنيا وذكر الآخرة، وجميل بمثل «صدقى» باشا أن يذكر الآخرة فى مثل هذه الأيام من شهر الصوم.
نُشرت فى جريدة «صوت الأمة» القديمة (لسان حال الوفد المصرى)، بتاريخ 3 أغسطس 1949م الموافق 9 رمضان 1365هـ (بتصرف).