يبدو أن صديقى هذا قد توسَّم خيراً فى إلمامى بتفاصيل حياة العرب قبل الإسلام، أو على الأقل فى قدرتى على البحث والتدقيق فى مجريات تلك الفترة التاريخية؛ إذ أرسل إلىَّ رسالة يقول فيها إنه يشاهد الآن بشغف كبير واهتمام بالغ مسلسل «الزير سالم»، الذى يحكى قصة الشاعر أبى ليلى المهلهل عُدى بن ربيعة التغلبى، الذى عاش فى جزيرة العرب فى عصر ما قبل الإسلام، وإنه يريد التأكد من مدى التزام هذا العمل بالوقائع التاريخية بدقة.
ومما قاله فى هذا الصدد، ووجدت فيه تعبيراً شديد الدلالة والإيحاء، إن «الوقائع التى يرويها المسلسل ويجسدها ببراعة فنية فائقة، أجمل وأكثر بذخاً ودراماتيكية من أن تكون تاريخاً».
على أى حال، فأنا أتفق تماماً مع ما ذهب إليه هذا الصديق من روعة هذا العمل واكتماله فنياً على أكثر من صعيد، وأتفق معه أيضاً فى أن مُجريات المعالجة الفنية ربما تكون أكثر زخماً وأروع إيقاعاً من الواقع، لكننى لم أتفق معه فى ميله إلى محاسبة العمل الفنى على التزام وقائع التاريخ بدقة، لأنه ببساطة ليس مصدراً تاريخياً، ويجب ألا يُحاسب من هذا المنطلق.
ولعل بعضنا يذكر أن الشاعر الراحل المُبدع أمل دنقل كان قد استوحى قصة الزير سالم فى قصيدة شهيرة عُدت، على مدى عقود، من درر الشعر العربى الفريدة؛ وهى قصيدة «لا تصالح»، التى تناصت مع حالة الزير سالم بعد أن غُدر أخوه الأكبر وملكه وفارسه المهيب وائل بن ربيعة، ليتحول من حياة اللهو والعبث إلى تكريس نفسه لطلب الثأر من قاتلى أخيه.
تذكرت بمجرد تسلُّم تلك الرسالة الصدمة التى عاينها بعض المشاهدين عندما تابعوا مسلسل «عنترة بن شداد»، الذى أُنتج عام 2007، وفوجئوا بأنهم ربما ظلموا شخص «شيبوب»، شقيق «عنترة»، بسبب تكوين صورته فى مخيلتهم على أساس ما ورد عنه فى فيلم لطيف أخرجه نيازى مصطفى فى عام 1961، حيث لعب فريد شوقى دور الفارس المغوار، فيما لعب الممثل سعيد أبوبكر دور «شيبوب».
وكانت العرب قد فطنت قديماً لتلك المفارقة، فقالت: «الصيت لعنتر والفعل لشيبوب»، فى محاولة لإلقاء الضوء على الدور المهم الذى لعبه هذا الأخير فى مسيرة الفارس العبسى الأشهر، وهو الأمر الذى ظهر جلياً فى الكتابات التاريخية الجادة، وفى المسلسل السورى المذكور سابقاً، والذى لم يظهر بالطبع فى فيلم نيازى مصطفى، الذى اختصر، لـ«ضرورات إبداعية»، شخصية «شيبوب» فى دور «سنيد هزلى خفيف الدم».
كثيراً ما يفعل الفن ذلك مع التاريخ؛ فلطالما صُدمنا حين قرأنا الوقائع فى الكتب التاريخية العلمية، مقارنين ما نقرأ بما سبق أن اطلعنا عليه عبر شاشات السينما والتليفزيون وخشبات المسارح؛ حدث هذا مع فيلم «وا إسلاماه»، الذى أعاد صياغة أداء «قطز» التاريخى، ليناسب «بطلاً مطلقاً»، واختصر أهمية «بيبرس» لتتضاءل أمام نجومية صاحب الدور الأول، وحذف واقعة قتل الصديق لصديقه وقائده تحت الراية المظفرة.
الأمر ذاته تكرر مع أفلام من طراز رفيع مثل «الناصر صلاح الدين»، بل إن عدداً كبيراً من المغالطات و«القفزات الإبداعية» شوه حقائق تاريخية واضحة فى بعض الأفلام التى تناولت ظهور الإسلام وبدايات توسعه.
وعلى الصعيد العالمى، فإن الانتقادات والهجمات لا تتوقف حيال بعض الأعمال الإبداعية التى وُصفت بأنها «زورت التاريخ» أو «شوهت» أحداثاً تاريخية معينة، ولا يبدو بين آلاف الأعمال التى اتخذت من التاريخ ميداناً لمعالجة فنية غير أقل القليل الذى لم توجه له مثل تلك الاتهامات.
وفى رمضان الماضى، ثارت هجمة حادة ضد عمل فنى كان فى طور الإعداد عندما رأى البعض استناداً إلى ما رشح عنه من صور أنه يقدم صورة مغايرة للوقائع والتفاصيل التاريخية، بل ذهب البعض أيضاً إلى أنه يمثل «اعتداءً» و«تشويهاً» يستوجب مساءلة.
لا يمكن إنكار أن خطورة المعالجات الفنية للقضايا التاريخية تتفاقم من زاوية أن قطاعات من الجمهور لا تبذل أى جهد لتحرى الوقائع التاريخية، وتقصر فهمها للتاريخ على ما تتلقاه عبر أقنية الدراما سواء كانت سينمائية أو تليفزيونية، وهو أمر يؤدى إلى مخاطر جمة.
والواقع أنه لا يمكن القول إن المجتمعات الأكثر تقدماً على صعيد الوعى العمومى والفنى بمنأى عن هذه الانتقادات والمفارقات، بل على العكس، فقد ظهر ميل واضح إلى توظيف الدراما كعامل سياسى مباشر فى كثير من كلاسيكيات السينما العالمية.
ولتوضيح الأمر بشكل أبسط يمكنك مشاهدة أفلام عالمية مؤثرة ورائجة، وأن تقارن الدراما بما توافر من معلومات ذات طابع تاريخى، لتجد مفارقات خطيرة، أما الأكثر إثارة للاهتمام من ذلك فهو ظهور بعض الأعمال الفنية التى تجتهد فى مقاربات تاريخية تقلب وقائع التاريخ أو تكرس الأساطير وتحولها إلى حقائق فى أذهان المشاهدين.
لا يجدر بنا أن نفرض على المبدعين التزام أدوات البحث العلمى عند تصديهم لإنتاج أعمال إبداعية، وربما يمكننا أن نطلب إليهم عدم التورط فى قلب وقائع تاريخية ثابتة أو تشويهها بحدة، وعندما يضطرون لفعل ذلك لـ«أسباب إبداعية» فعليهم أن يعلنوا عن ذلك بشكل واضح فى مستهل أعمالهم، أما أصحاب المعالجات «الأكثر دقة والتزاماً تاريخياً»، فبوسعهم دوماً أن ينتجوا أعمالاً، وأن ينقدوا الإبداع السائد، وعندما يزدهر التعدد، يُقوَّم الانحياز.