نموذج «المستبد العادل»، مثال الجدة المحبب للقلب.. حاول كثير من الفلاسفة أمثال «هوبر» و«فولتير» البحث عن هذا النموذج فى دراستهم للعقد الاجتماعى، لكنهم فى النهاية تركوا الفكرة تماماً، فلم يوجد «مستبد عادل» قط فى التاريخ، ولن يوجد فى المستقبل.
ولما كان نموذج «المستبد العادل» ينتمى إلى «النظرية»، أعنى إلى تصور الأفضل، والمثال إلى «اللاشعور السياسى»، وهذا النموذج مسئول بهذه الدرجة أو تلك عن غياب الديمقراطية، على الأقل من حيث إنه يقدم بديلاً عنها يعتبره أفضل منها.
ولكن بما أن هذا البديل النموذج قد بقى وما زال مجرد خيال، مجرد مطلب، فالبديل الواقعى القائم دوماً هو شىء آخر غير «الاستبداد المقيد بالعدل»، إنه «الاستبداد المطلق» الذى هو النقيض للديمقراطية.
وهذا النموذج يفسر غياب الديمقراطية فى العالم العربى والإسلامى، وواضح أنه لا يرجع إلى الإسلام كدين، بل إلى الموروث الإسلامى الذى يتشكل من فهم المسلمين للإسلام وتأويلهم له.
من الممكن أن يكون صحيحاً بنسبة كبيرة أن المسلمين اعتمدوا على نموذج «بيعة الثقيفة» ثم تفسير الآية فى سورة الشورى (وأمْرهُم شُورى بينهم) ثم (ولو ردوه إلى الرسولِ وإلى أولِى الأمرِ منهم لعلِمه الذينَ يَستنبِطُونه منهم)، والآية واضحة فى أن اختيار ولى الأمر الحاكم شورى بينهم، وأن هذا الاختيار متسع جداً حتى تختار من هو قادر على فهم معضلات الحكم وأهل للتحديات الصعبة التى تمس مصائر الناس، ولكن المسلمين اكتفوا باختيار الخليفة، ولم يناقشوا كيفية خلعه إن خرج عن مسار العدل، فكانت النتيجة أن قاموا بقتل الخليفة عثمان بن عفان «ذى النورين» بدلاً من خلعه، وكان خلعه أسهل من قتله، ومن وقتها حتى الآن لا يترك حاكم إسلامى الكرسى إلا بالخلع أو بالقتل.
فعلاً النظرية فى أساسها خطأ، فالاستبداد والعدل على إطلاقهما لا يجتمعان، فالاستبداد يحمل معنى التعسف، وهذا لا يستقيم معه العدل، ولكن بخصوص غياب الديمقراطية وإرجاعها للموروث الإسلامى وليس للإسلام نفسه.
هل نستطيع أن نفصل الإسلام كدين عن الموروث الإسلامى؟ أو بمعنى آخر: هل هناك حد فاصل أو خط واضح نستطيع أن نحدده بين الإسلام كدين وبين الموروث الثقافى الإسلامى حتى نفصل هذا عن ذاك؟
المشكلة أن المسلمين الأوائل اعتبروا أن الرسول جاء ليحكم جماعة المسلمين وليس ليدعو للإسلام، ولذا احتاجوا بعده إلى خليفة يحكمهم وليس إلى مؤتمنين على الدعوة يكملون حفظ دين اللَّه، وهذا واضح فى هرولة سيدنا أبى بكر وسيدنا عمر إلى ثقيفة بنى ساعدة، حيث كان المسلمون مجتمعين لاختيار الحاكم أو الخليفة حتى قبل أن يوارى الجسد الطاهر فى التراب، وهذه الواقعة تدل على حب الناس للسلطة والحكم، رغم أن المجتمعين «هم مَن هم» وبينهم المبشَّرون بالجنة، ما زال هذا الاجتماع والسرعة التى تم بها واتفاق عمر وأبى بكر يثير الكثير من التساؤلات، إذ إن انقسام المسلمين بدأ قبل مواراة الجسد الطاهر فى التراب، واحتاج الأمر بدلاً من قتال المسلمين للكفار لنشر الدين، إلى قتال المسلمين لبعضهم لتثبيت الحكم والطاعة فى حروب الردة، وإلى قتال الحاكم والخروج عليه وقتله للاستئثار بالحكم، والذى وصل إلى أوجه فى الفتنة الكبرى!
إن الإسلام والمسلمين دفعوا الثمن غالياً بسبب فكرة ضرورة أن تكون ضمن جماعة، و«إن كنتم ثلاثة فأمّروا»، وهنا كل عشرة أفراد يجتمعون معاً يعلنون أنهم الجماعة دون غيرهم ويختارون أحدهم إماماً لا يجوز الخروج عليه، فتمزقت الأمة الإسلامية وتشتتت، وأصبح من الواجب أن يتم تدريس فقه الدولة لا فقه الجماعة فى المناهج الدراسية، حتى يمكن مواجهة هذا الفكر الذى ليس من السهل التخلص منه، نظراً لارتباطه بعصر النبوة والصحابة!
حد فاصل نفرق به بين الإسلام كدين، وبين الموروث الثقافى الإسلامى، قوله صلى اللَّه عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِى فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»، وقوله: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» أو «إِذَا كَانَ شَىْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَىَّ».
وهل هناك حد فاصل كالسيف أكثر من هذا؟! فقد كان حديث الرسول صلى اللَّه عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» رداً على كيفية حصد بلح النخيل، فأخرج هذا الحديث كل ما هو غير فقه العبادات من نطاق العقيدة!