«الوطن» فى رحلة موت» على طريق «العريش - الشيخ زويد»
جاء الحاج سويلم مسرعاً إلى موقف سيارات العريش، يسابق الزمن قبل بدء ساعات حظر التجوال، وسأل السائقين بلهفة: «من عليه الدور إلى الشيخ زويد؟»، فأشار أحدهم إلى السائق «م»، ليتوجه إليه ويعطيه ورقة صغيرة كتب فيها رسالة قصيرة: «ابنى محمد بلغ أمك وإخوتك أننى سأبيت فى العريش، لأننى لم أتمكن من إنهاء معاملتى بسجل الأحوال المدنية وسأستكمل إجراءاتى غداً».
هكذا نجا الحاج سويلم من القدر الذى كُتب على حامل رسالته، فلم يسعف الوقت السائق للوصول إلى وجهته؛ الشيخ زويد، قبل حلول موعد الحظر، ليقضى هو والأربعة عشر راكباً ساعات من الفزع والقلق بين الخوف من الوقوع فى كمين للمسلحين، خصوصاً بعد اكتشافهم وجود «مجند» بينهم، أو الموت برصاص الأكمنة التى تطلق النار على كل ما يتحرك وقت الحظر.
فى موقف العريش، برر الحاج سويلم، لـ«مرساله»، اضطراره لهذه الطريقة، بطريقة «التعريف بالمعروف لالتماس العذر»، قائلاً: «والله يا ولدى منذ أكثر من 4 شهور، ونحن نعانى القطع النهائى لشبكات الاتصال الثلاث، ومرة يكون السبب دواعى أمنية، وأخرى يكون تضرر الشبكات بسبب الجو أو قنابل التكفيريين».
ولم يأخذ السائق، الذى كان يقف قربنا ونحن ننتظر فى سيارته، وقتاً فى التفكير، وأخذ ورقة الحاج سويلم، ووعده بتسليمها لصاحب محل بالشيخ زويد يعرف محمد، الابن الأكبر للرجل، وما إن أكمل تحميل السيارة، حتى انطلق مسرعاً ليتوجه إلى الشيخ زويد قبل حلول الساعة الخامسة.
وفى الطريق أوقف مواطن السيارة، وأخبر السائق أن الطريق الدولى العام بين العريش والشيخ زويد ورفح مغلق، وأن القوات الأمنية طلبت من أصحاب السيارات العودة للعريش، بعد عثورها على 3 عبوات ناسفة على الطريق الدولى العام، قبالة جرادة وقبر عمير والشلاق غرب الشيخ زويد.
وقبل أن يفكر أحد فى العودة، سارع أحد الركاب قائلاً: «أعرف مدخل طريق التفافى آخر، يؤدى فى النهاية إلى الشيخ زويد»، ووافق الجميع مضطرين على سلوك الطريق الالتفافى الجديد.[SecondImage]
تحرك السائق سالكاً طريق «المحاجر - المزرعة»، المؤدى إلى أول طريق «الطويل» من ناحية العريش، ومع حلول الظلام، بعد نحو 45 دقيقة، كان قد وصل إلى منطقة «القواديس»، ليجد سيارة من بعيد تعطى إشارات ضوئية، اختلف الركاب حول التوقف لها، بعضهم قال: «ربما يحتاج من بها إلى مساعدة، وربما عالق فى المدق الرملى»، فى حين تخوف آخرون قائلين: «لكنه ربما يكون لصاً أو قاطع طريق»، ليحسم راكب آخر الموضوع قائلاً: «نحن 15 شخصاً، وبيننا سيدات، ولا أعتقد أنهم سيسرقوننا ونحن معنا سيدات وأطفال، كما أننا نستطيع أن نقاوم فعددنا كبير، وهم لن يزيدوا على 4».[FirstQuote]
وافق الركاب فى النهاية على الوقوف للرجل، وهو ما امتثل له السائق، ليتفاجأوا بصاحب السيارة الأخرى يحذرهم: «أمامكم كمين للمسلحين، هل معكم جنود؟»، فنظر الجميع لبعضهم البعض، دون أن يتكلم أى منهم، ليتابع الرجل: «لو معكم جنود أو متعاونون مع القوات الأمنية عودوا فوراً من حيث أتيتم».
وقبل أن يعيد السائق تشغيل سيارته، لاحظ الركاب اضطراب شاب عشرينى يجلس فى الكرسى الأخير، ففهموا أنه مجند، ليقرروا العودة بالميكروباص إلى العريش مرة أخرى، حتى لا يعرضوا حياته للخطر، وبالفعل عاد السائق أدراجه مسرعاً، وفى الطريق حذره أحد الركاب قائلاً: الساعة تجاوزت السادسة، وكمين المزرعة أغلق، والجنود سيضربون الرصاص على أى جسم متحرك يأتى باتجاه الكمين، وفقاً للتعليمات الأمنية الجديدة.
حالة من الارتباك والذعر سادت بين الركاب، الذين علقوا بين كمين المسلحين الذى يمنع وصولهم للشيخ زويد، والكمائن الأمنية التى تحول دون عودتهم إلى العريش، حتى اقترح أحد الركاب اللجوء لأى من المجالس البدوية القريبة من طريق «الطويل» الالتفافى، والبقاء هناك حتى الصباح. لم ترق الفكرة للنساء ولا أغلب الرجال، إلا أن السائق لم ينتظرهم بعد أن نظر إلى المجند الذى بدا عليه القلق والخوف من أن يتركوه يواجه مصيره، وقام بإيقاف سيارته بجانب مسجد لا يبعد عن العريش سوى ربع الساعة فقط، إلا أن استنفار الأكمنة جعل الوصول للمدينة مهمة شبه انتحارية.
ولم تمر دقائق على توقف السيارة، حتى سارع أهالى المنطقة بالقدوم، بعد أن عرفوا أن الركاب عالقون، وأحضروا لهم الشاى، وعرضوا عليهم النزول للمبيت داخل منازلهم.[SecondQuote]
ودارت أحاديث كثيرة بين أهالى المنطقة والركاب والسائق حول الطرق البديلة التى قد يسلكونها، وحرص الجميع على التكتم على موضوع وجود مجند بينهم، بعد أن أعطاه أحد الركاب «شالاً» كان معه، وقال له: «نم.. وكأنك مريض ولا تتحرك». أثناء تناول الركاب الشاى الذى قدم لهم، اتفق أحد الأهالى مع السائق على الاتصال بأقارب له يسكنون قرب «القواديس»، للاستفسار عن كمين الإرهابيين، وبالفعل اتصل الرجل بقريب له، أخبره أن المسلحين غادروا المكان وأن الطريق بات آمناً تماماً.
انطلق السائق، قبل أن يشرب معظم الركاب الشاى، وفى الطريق أضاء السائق لسيارة تاكسى مقبلة من الناحية المقابلة، وسأل سائقها إذا ما كان هناك أكمنة أمنية أو مسلحون على الطريق؟ فأجاب الرجل: «كان هناك كمين للمسلحين، لكنهم غادروا»، فسأله السائق: «إلى أين أنت ذاهب؟»، فأجاب: إلى العريش، ليرد سائقنا: «لكن الأكمنة فى حالة استنفار ولن تستطيع الوصول»، إلا أن سائق التاكسى قال: «سيارتى صغيرة وأستطيع الوصول للعريش من منطقة المزارع»، وقبل أن يغادر التاكسى، عرض السائق على المجند العودة معه إلى العريش، ولكن أحد الركاب نصحه بالرفض، لأنه شك فى لهجة ونبرات سائق التاكسى. واصل سائق الميكروباص السير باتجاه الشيخ زويد من ناحية «القواديس»، وكلما صادف تجمعاً للبدو، نزل واستفسر عن الطريق، وقال للركاب لن أغامر ولو كلفنى الموضوع أن أبيت فى العراء على حدود العريش مرة أخرى. وسلك السائق طريق «الخروبة - العبيدات» على الطريق الدولى العام، وبعد أن حجب كمين الخروبة عن الرؤية بمسافة 6 كيلومترات على الأقل، طلب أحد الركاب من السائق عدم السير على الطريق الدولى، قائلاً: «لو قابلتنا الحملة أو الآليات المقبلة من الشيخ زويد، سيشتبه الجنود أننا إرهابيون وسيطلقون الرصاص من الأسلحة الآلية والمتعدد علينا فوراً، خصوصاً أن الساعة الآن تخطت السابعة مساءً». تحذير الراكب لقى صداه عند الباقين، فاقترح بعضهم أن يلجأوا لأحد الأكمنة، إلا أن السائق رد: «سيبادرون بإطلاق الرصاص علينا»، وظل النقاش دائراً لأكثر من ربع الساعة، حتى مروا بجوار مدخل رملى قريب من قرية قبر عمير، فصاح أحد الركاب: «ادخل من هنا، إنه طريق التفافى بعيد عن سير الآليات والحملات العسكرية»، وبالفعل دخل السائق للمدق الرملى، وما إن سار مسافة 7 كيلومترات حتى قابل الطريق الالتفافى الرئيسى مرة أخرى.[ThirdImage]
وصل السائق إلى مفترق الغرة، واتجه شمالاً ليقطع الطريق الدولى العام من ناحية مزلقان الشعراوى غرب الشيخ زويد، إلا أن أحد الركاب أوقفه قائلاً: «هناك صوت آليات تعبر الطريق»، فتوقف السائق تحت شجرة قرب الطريق، ليسمعوا بالفعل صوت جيبات عسكرية تقترب من المكان، ونزل أحد الأشخاص لديه أقارب بالمنطقة ليستطلع الأمر، وغاب لمدة 5 دقائق ثم عاد مرتبكاً، وقال للسائق: «استمر بالسير.. الجيبات غادرت منطقة المزلقان»، فسأله الركاب ماذا حدث؟ ليرد: الأهالى وجدوا 4 جثث لمتعاونين مع الأمن قتلهم الإرهابيون، والجيش جاء ومعه سيارات الإسعاف لنقل الجثث إلى المستشفى تحت حراسة مشددة.
خيم الصمت للحظات على الجميع، ونظر السائق يميناً ويساراً حتى عبر مزلقان الشعراوى، ليتنفس الجميع الصعداء، فلم يبقَ بينهم وبين أول أحياء الشيخ زويد إلا 7 دقائق فقط.
وسرعان ما انقلب حالهم من جديد، بعد أن لاحظوا دراجة نارية تلاحقهم، وما إن وصلت جوارهم، حتى قال قائدها: «يا جماعة غيروا خط السير إلى طريق الخدايجة، بدلاً من طريق «الكينيا»، لأن هناك قوة أمنية بجانب الفرن الآلى على طريق السكة الحديد، تمشط المكان بحثاً عن مسلحين».
واقترح السائق أن يقوم الركاب بالنزول من الميكروباص ويذهبوا لمنازلهم مترجلين، وهو ما وافقوا عليه، ولكن بقى أمام السائق مشكلتان؛ أولاهما المجند، والثانية رسالة الحاج سويلم.[ThirdQuote]
التفت الرجل إلى المجند، وسأله أين تريد أن تنزل؟ فأجاب: «أقرب مكان لقسم الشرطة، هناك طريقة للدخول متفق عليها مع زملائى»، فحذره السائق من القناصة، وهو يوصله لأقرب نقطة للقسم، لكن الجندى شكره ونزل.
ما إن نزل المجند، حتى تنفس السائق الصعداء، وبحث فى جيبه عن «رسالة الحاج سويلم»، آخر مشكلة لديه، إلا أنه لم يجدها، فذهب إلى أحد معارفه ليضع الميكروباص عنده حتى الصباح، وسؤاله عن منزل صاحب الرسالة.
ذهب السائق إلى منزل صديقه بحى «أبوالحاج»، وأخبره بما حدث معه، ووضع السيارة بـ«حوش منزله»، وخرجا لإيصال رسالة الرجل الغائب شفهياً، بعد أن ضاعت الورقة.
وما إن وصل السائق وصديقه إلى بيت الحاج سويلم، ونادى «يا محمد»، حتى سارعت سيدة عجوز لفتح الباب، وقالت لهما إنها زوجة سويلم، فأخبرها السائق بالرسالة وما حدث معه، لكن الحاجة «أم محمد»، طالبتهم بـ«الورقة المكتوب بها المرسال»، فأكد السائق أنها ضاعت منه، وهو ما لم يقنع السيدة العجوز، لتقول: «استحلفتك بالله، ألم يحدث مكروه لزوجى؟»، فأقسم السائق بأن الحاج سويلم بخير وأعطاه المرسال، لكنه ضيعه بسبب ما مر به فى الطريق. تنهدت السيدة العجوز، وبدا أنها لم تطمئن بعد، وقالت لهما: «روايتكما تكفينى حتى الصباح فقط»، لينصرف السائق ورفيقه. وهنا عرف السائق لماذا أصر الحاج سويلم على كتابة «مرسال»، ولم يكتفِ برسالة شفهية، لطمأنة أهله عليه بعد تعذر عودته إلى الشيخ زويد.