هذه الأمة منكوبة فى إعلامها، ولا أقصد هنا التعميم، فمن بين إعلاميينا مَن تغير جلده حسب كل عصر، وهم أنفسهم كانوا موجودين أيام الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وبعضهم كان فى حملاته الانتخابية، ثم انقلبوا عليه عقب سقوطه، وتبدلوا بين طرفة عين وانتباهتها، ليتحولوا إلى حماة للثورة، ثم أصبحوا يتحدثون كأنهم هم الذين أطلقوا شرارتها، وكانوا يتسابقون على استضافة رموز الثورة، ووقعوا فى فخ الإخوان، وأصبحوا يغازلونهم حتى سلّموهم الحكم، وكانوا سبباً رئيسياً ومباشراً، فتلك الكارثة. وحينما استشعروا الخطر على أنفسهم هاجموا الإخوان، وللحق أنهم أيضاً ساهموا فى إسقاطهم، وبدأت مرحلة جديدة لهذه النوعية من الإعلاميين الذين أصبحوا يتحدثون باعتبارهم مَن أطلقوا شرارة الثورة على حكم الإخوان، واستشعروا قوة فوق قوتهم، فلا ضابط ولا رابط ولا قيد قانونياً على أى كلام يطلقونه، أو أى اتهامات يقذفون الناس بها عن علم أو بغير علم أو هوى شخصى، فالإعلامى من هؤلاء الذين نتحدث عنهم لديه قدرة حربائية على التلون حسب المرحلة، ويظن أنه فوق الجميع، لأن أحداً لا يحاسبه، فأصبح البعض يتخيل أنه يضع السياسة العامة للدولة ويتحكم بها. وضاع أدب الحديث، كما ضاع المنطق، وضاعت الحقوق أيضاً. وإذا ضاعت الحقوق، انهار المجتمع كله.
أصبحت وجهة نظر الإعلامى هى الوحيدة الصحيحة، كما يتخيل، فيفرضها على المجتمع كله، وأصبح الغرور الذى ضرب الكثيرين منهم يخيل إليهم أنهم لا يخطئون أبداً مهما قالوا، وحتى لو وصل الأمر لسب الدين على الهواء، وحتى لو وصل الأمر، لأن ينصح إعلامى إحدى الراقصات بالذهاب لداعش لممارسة جهاد النكاح، وهذا الكلام على الهواء مباشرة، وهو أمر يُطلق عليه «فعل فاضح».. ولكن من يجرؤ على مراجعته؟! فالإعلام حر.. والإعلامى أكثر حرية، ولا سقف لديه، أى سقف، سواء كان مهنياً أو قانونياً أو أخلاقياً.
لم يعد لقواعد المهنة أى اعتبار، المهم فى الإعلامى أن يكون صوته عالياً، ويكون قادراً على استفزاز ضيفه، ويا سلام لو تمكن من مضايقته حتى ينسحب على الهواء، وبعد دقائق يقوم بترويج هذا المشهد على مواقع التواصل الاجتماعى، مصوراً نفسه بأنه بطل مغوار لا يستطيع أى ضيف أن يقف أمامه، ونسى الجميع، وأولهم الإعلاميون، أن الأصل فى مهنة الإعلام هو القدرة على استخراج أكبر قدر ممكن من المعلومات التى يخزنها الضيف، أو كما يقال فى مصطلحات الإعلام المصدر، ولكن أى ضيف وأى مصدر بعد أن أصبحت غالبية البرامج عبارة عن مذيع فقط يتحدث فى كل شىء. ولم يعد للضيف مكان، فالمذيع هو المصدر، وهو الأعلم، فلماذا يستعين بأهل المعلومات؟! يكتفى ببعض الاتصالات التليفونية فقط، ولا داعى للاستعانة بالضيوف، وبعض البرامج تمتد مساحتها الزمنية إلى ما يقرب من 3 ساعات، تجد المذيع يتحدث لمدة ساعتين ونصف الساعة، بمفرده أو مع زميله، وينتهى البرنامج بنصف ساعة حوار مع ضيف أو عدة ضيوف، فماذا استفاد المشاهد؟!
لا شىء، لأن المشاهد يتابع البرامج لزيادة معلوماته، وليس للتملى فى وجه مذيع بعينه كل يوم، وطبعاً لأن البرنامج 5 أيام فى الأسبوع، نجد الكلام يتكرر، وهذا طبيعى، ولكنك أيضاً تجد الكلام يتناقض لأن المذيع بشر مثلنا ينسى أحياناً.
وفى كل الحالات، يتقاضى هذا المذيع مبالغ يصعب تصديقها كرواتب مقابل هذا العمل، لماذا؟! لأن المذيع يقاس نجاحه بقدرته على جلب الإعلانات، وليس على تفريغ المعلومات، وكلما جلب المذيع إعلانات أكثر تقاضى ملايين أكثر، وهكذا، ولأن الصراخ فى مراحل سابقة كان موضة اتبعها غالبية المذيعين، وكانت وسيلة للتغطية على التلون الحاد والسريع، ولكنها موضة وانتهت بدليل أن الناس انصرفت عن تلك البرامج، واتجهت للبرامج الترفيهية، فلماذا يعود المواطن من عمله، ليجلس أمام مذيع أو مذيعة يملآن الدنيا صراخاً ونحيباً؟ أليس فيه ما يكفيه؟! ألم يتشبع من حالة الاكتئاب على مدى سنوات طويلة مضت؟!
المهم.. هو التأثير الذى يتركه الإعلاميون الذين يمتلكون المواصفات السابقة على المجتمع الذى يرغب فى أن يكون أفضل، بالـتأكيد سوف يزيد حالة الاكتئاب والعدوانية، فما يحدث فيه تضليل، حيث إن القليل من الحقيقة والكثير من الهوى الشخصى للمذيع، وهذا الأمر ينطبق على كثير من الصحفيين أيضاً بكل أسف.
فإذا كان إعلامنا سيؤدى بنا إلى هذه الحالة، فما الذى يقلق أعداءنا وهم كثير، فمنهم من يتربص بنا عبر الحدود، ومنهم من يعيش وسطنا، ليرهبنا بتفجيرات هنا وهناك، وأحياناً تجد من الإعلام من يشجعهم على ذلك، ألم أقل لكم: «عدو عاقل خير من إعلامى جاهل». عموماً قد نتعرض بالتفصيل لوقائع محددة فى مقالات مقبلة، فلم تعد مصر تحتمل المجاملات، ولم يعد ممكناً الصمت على العبث بوطن بأكمله من أجل مصالح هؤلاء الشخصية.