قبل نحو أسبوعين، مُنيت قوات الجيش العراقى بهزيمة نكراء فى مواجهة تنظيم داعش الأمريكى، حين حاولت تحرير منطقة «ناظم الثرثار»، وكان سبب الهزيمة هو نفاد السلاح والذخيرة من تلك القوات فى مواجهة تنظيم لا يعانى أبداً أزمة تسليح أو نقص ذخائر. تحدث الكثير من المحللين عن فضيحة الجيش العراقى وجريمة قياداته التى لم توفر له العتاد اللازم للمعركة، ولم يفكر أحد فى الجانب الآخر من الحدوتة: لماذا لا يعانى «داعش» من أزمة مماثلة رغم أنه ظاهرياً ورسمياً لا يتلقى دعماً من كبار موردى السلاح فى العالم؟
وفى الجوار، وتحديداً سوريا، التى كانت مهد دولتى الخلافة المعلنتين (داعش وجبهة النصرة)، تغيرت قوانين اللعبة من خلال تحريك الكراسى الموسيقية، فبعد أن كانت الكلمة العليا لـ«داعش»، انزوى التنظيم جانباً تاركاً توأمه الأمريكى (جبهة النصرة) فى المواجهة. ويحاول محللون أن يروجوا لفكرة أن «جبهة النصرة» هى الحل السحرى الأمثل لإسقاط «الأسد»، كما جرى تسويقها باعتبارها «وسطية غير متطرفة»، بعد عمليات تجميل متتالية كانت أبرزها عملية فصلها عن والدتها «القاعدة». ولا أحد فى العالم يعلن أو يعترف بالمصدر الذى يأتى منه السلاح لـ«جبهة النصرة».
تنتمى «جبهة النصرة» إلى فكر السلفية الجهادية الإرهابى، وهى المدرسة التى ذاع صيتها على يد الأمريكى الشهير أسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهرى، ومنذ تأسيسها فى 2011، كان السلاح يتدفق عليها بغزارة مثل توأمها الداعشى، ونجحت مؤخراً فى ضم بقية الفصائل الإرهابية تحت لوائها، ومنها «أحرار الشام» و«لواء الغرباء» و«كتيبة السيف العمرى»، و«جيش الفتح» و«جيش الإسلام» لتشكل جيشاً موحداً، لا يختلف عن «داعش» إلا فى أسلوب القتل، فالأول يحرق ويذبح، والثانى ينفذ إعدامات جماعية إما بالرصاص أو بالغازات والأسلحة الكيماوية. وهكذا صار الاختيار بين من يقتل بوقاحة ومن يقتل بوساخة.
تلك الثنائية هى اللعبة الأساسية التى يعتمد عليها من يدير المنطقة الآن: «صراع عربى إسرائيلى» لا ينتهى، و«صراع بين السنة والشيعة» على مساحة شاسعة من الأراضى «العراق واليمن وسوريا ولبنان»، وصراع بين القرنين الأول الهجرى والواحد والعشرين الميلادى، وصراع بين تجار الدين وتجار العالمانية، وصراع بين تجار أمريكا وتجار روسيا والصين. وفى كل دولة ثقب كبير صنعه «المدير»: سيناء فى مصر، طرابلس وبرقة فى ليبيا، مثلث داعش فى العراق وسوريا، مثلث الحوثيين فى اليمن، إضافة إلى ثقوب الجزائر والسودان والبحرين.
يقول الشاعر السكندرى العظيم قسطنطين كفافيس فى رائعته «المدينة»:
«قلت: سأذهب إلى أرض ثانية وبحر آخر/ إلى مدينة أخرى تكون أفضل من تلك المدينة/ كل محاولاتى مقضى عليها بالفشل/ وقلبى دفن كالميت/ إلى متى سيكون فكرى حزيناً؟ أينما جلت بعينى، أينما نظرت حولى بإمعان، رأيت خرائب سوداء من حياتى/ حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت/ لن تجد بلاداً ولا بحوراً أخرى فسوف تلاحقك المدينة/ ستهيم فى نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة/ فى هذه الأحياء نفسها وفى البيوت ذاتها/ سيدب الشيب إلى رأسك/ وستصل دوماً إلى هذه المدينة/ لا تأمل فى بقاع أخرى، ما من سفين من أجلك/ وما من سبيل.. ما دمت قد خربت حياتك هنا/ فى هذا الركن الصغير.. فهى خراب أينما كنت فى الوجود».