"لطفى".. أحمد راشدى يسقط بين جماليات الصورة وترهل الإيقاع
نضال الشعب الجزائرى ضد الاستعمار الفرنسى ظل حاضراً فى الوجدان العربى طوال أكثر من نصف قرن، وما زالت بطولات المجاهدين وما قدموه من تضحيات محفورة فى فضاء الذاكرة الإنسانية، تلك الصور والمشاهد كانت حاضرة أيضاً فى حفل افتتاح مهرجان وهران السينمائى الدولى من خلال فيلم «لطفى» للمخرج الجزائرى أحمد راشدى الذى يجسد من خلاله قصة كفاح البطل الشاب «داغين بن على بودغان» الشهير باسم العقيد لطفى، أحد رموز ثورة التحرير الجزائرية، وعضو المجلس الوطنى للثورة، والذى سقط شهيداً وعمره لا يتجاوز 26 عاماً، بعد سنوات من الكفاح المسلح ضد الاحتلال، بدأها وهو ما زال طالباً فى الثانوية الفرنسية الإسلامية بتلسان، حين قام بوضع ملصقات نداء جبهة التحرير الوطنى فى أول نوفمبر عام 1954، لحث الشعب الجزائرى على الانتفاض فى وجه المستعمر وتحرير أرض الوطن من الاحتلال الفرنسى.
تقع أحداث فيلم «لطفى» فى نحو ثلاث ساعات، قدم خلالها المخرج أحمد راشدى صورة حية للمعارك القتالية التى خاضها الثوار فى الجبال الغربية الجنوبية لتلمسان، والبطولات العسكرية للمناضلين الجزائريين فى سبدو والأغواط، وفى ولاية بشار حيث سقط العقيد لطفى فى ساحة الشهداء بعد أن كبّد قوات الاستعمار الفرنسى خسائر فادحة، وقد جاءت جماليات الصورة وجودة تصوير المعارك على حساب الحبكة الدرامية والأحداث التاريخية، التى أخفق فى سردها كاتب السيناريو الصادق بقوش، كما بدا واضحاً ضعف المشاهد الحوارية، فكان الارتجال والتصنع سيد الموقف فى العديد من تلك المشاهد التى سقطت فى الإطالة والإسهاب والإطناب، وهو ما انعكس على الإيقاع العام للفيلم وأصابه بحالة من الترهل، وهذا غير معهود فى أعمال المخرج الجزائرى الكبير الذى قدم مجموعة من أهم الأفلام الجزائرية.
قام بدور العقيد لطفى الممثل الشاب يوسف سحيرى الذى يمتلك وجهاً معبراً وحضوراً قوياً على الشاشة، وقد بدت ملامح وجهه وسماته الجسدية ملائمة فى جزء الفيلم الأول الذى يجسد فيه شخصية الشاب المثقف «داغين» المولع بالقراءة والأدب، والمنحدر من عائلة مثقفة وميسورة الحال، وبعد أن يصبح مطارداً من شرطة الاحتلال، يترك «داغين» مدرسته ويذهب إلى الجبل وعمره 21 سنة ليلتحق بجيش الثوار، وهناك يحرق أوراق ثبوت الشخصية، ويختار لنفسه اسماً حركياً جديداً هو «المناضل إبراهيم»، وهنا يبدو الاختلاف فى مستوى أداء الممثل الجزائرى الشاب وانفعالاته، ومدى استيعابه لتطور الشخصية والأحداث بعد تدرجها فى رتب جيش التحرير الوطنى، وبعد أن أوكلت له قيادة الولاية الخامسة برتبة عقيد، وهنا يبدأ مرحلة أخرى باسم حركى آخر هو العقيد لطفى، ذلك المناضل الجسور الذى يتميز بأفكاره ومواقفه وآرائه الشجاعة المعلنة، حيث كان يرفض غياب المرأة المجاهدة عن القيادة، ويناهض تفضيل العسكريين على السياسيين فى تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة، كما اختار العودة لصفوف المحاربين وترك مكانه فى مجلس القيادة، لتكون محطته الأخيرة فى ساحة النضال يوم 27 مارس 1960 هى طريق بشار، ليفارق الحياة بعد معركة حامية الوطيس ألحقت بقوات الاحتلال خسائر كبيرة.
ويبقى المشهد الأخير لاستشهاد العقيد لطفى ورفاقه فى ميدان المعركة من أجمل مشاهد الفيلم من حيث الأداء والحركة والتصوير، وأكثرها قوة وتأثيراً فى وجدان المشاهد، حيث يأبى الشهيد أن تفارق روحه الحياة قبل أن يطبع «قبلة الوداع» فوق تراب الوطن، ويرتمى بين أحضانه، لتهدأ بعدها نفسه وتستكين روحه الطاهرة وتصعد إلى بارئها، وتتوارى صورة الشهيد من فوق الشاشة، لكنها تظل محفورة فى وجدان الجمهور، وتبقى ذكريات بطولاته العطرة تتناقلها الأجيال.
ويأتى فيلم «لطفى» فى إطار مشروع جمع وتوثيق وتدوين الشهادات الحية، وإنتاج سلسلة من الأعمال السينمائية التى تجسد أحداث ثورة التحرير، وصناعة أفلام تجسد التضحيات والبطولات التى قدمها الشعب لتحرير أرضه ونيل حريته واستقلاله، وتصور مجازر الاحتلال الفرنسى وممارساته القمعية وعمليات التعذيب والتنكيل التى قام بها ضد الثوار والمناضلين، لكى تظل تلك الأشرطة السينمائية بمثابة الذاكرة الحية للأجيال، وشاهداً على حقبة تاريخية مريرة عاشها الجزائريون. وقد قام بتمويل الفيلم وزارتا المجاهدين والثقافة، كما وضع الجيش الوطنى الشعبى كل الإمكانيات المادية والخبرات الفنية والتقنية تحت تصرف صنّاعه، ووفّر الجيش المعدات العسكرية وساعد فى نقل الآليات للمناطق الجبلية، وأمد صناع العمل بفريق من الخبراء لتصوير المعارك التى دارت بين الثوار وجيش الاحتلال الفرنسى. ويُعد «لطفى» ثالث فيلم للمخرج أحمد راشدى، بعد فيلم «مصطفى بن بولعيد» الذى أخرجه سنة 2009 وفيلم «كريم» سنة 2015، ويقوم حالياً بتصوير فيلمه الرابع، كما أعلن فى الندوة التى أعقبت عرض الفيلم أنه سيبدأ فى صناعة سلسلة أفلام تخليداً للمجاهدات الجزائريات على غرار الأعمال التى جسد فيها بطولات الرجال.