يأكلون الفقر.. ويأكلهم
يتدثرون بالفقر، يأكلونه ويأكلهم، يسكنون فيه ويسكن فيهم.. يتجلّى فى ملامحهم.. فى رائحتهم. فى قاع بئر الطبقية يسكن الفقراء منذ الأزل وإلى الأبد. أسرة مطحونة داخل صندوق الطوب الأحمر الذى يستر عورات أفرادها، يجمعهم صحنان من طعام الهمّ ولقيمات من عجين الغم. أجسادهم ممصوصة، ووجوههم بائسة. هم الفقراء «ملح الأرض» التى يضيع منها طعمها دونه.
فى شريعة «ابن مريم» هم المساكين الذين استحقوا منه العظة: «طوباكم أيها المساكين.. لأن لكم ملكوت الله»، وهم السابقون إلى الجنة فى أحاديث ابن عبدالله، لا تفرق الطبيعة بينهم وبين الأثرياء، هم سواء بسواء أمامها حتى فى الموت «ضريح رخام فيه السعيد اندفن.. وتربة فيها الشريد من غير كفن.. مريت عليهم.. قلت: يا للعجب!! الاتنين ريحتهم ليها نفس العفن».
وجوه مكفهرة يجتمع ذووها على الحصير الخشن أمام صحنين من بسيط الطعام أعدته الأم المنهكة البائسة التى دعت أولادها للطعام وتراجعت هى «لقيتها ليتنى ما كنت ألقاها.. تمشى وقد أثقل الإملاق ممشاها.. أثوابها رثة والرجل حافية.. والدمع تذرفه فى الخد عيناها».