رغم فقر الصعيد، وعدم اهتمام الدولة المصرية به فى كل العصور، وتردى الخدمات، وغياب فرص العمل، فإنه أنجب عباقرة فى كل المجالات، فى الدين والعلم والطب والأدب والشعر والعسكرية والسياسة والتصوف، ليدرك الجميع أن الصعيد رغم ظروفه القاسية والإهمال الطويل له سيظل مولداً للعظماء فى كل المجالات، فمنه خرج شيخ الأزهر حسونة النواوى الذى يطلق عليه صاحب المشيختين، أى الذين تولوا المشيخة مرتين مثل الإمبابى والبشرى، والمراغى وعبدالمجيد سليم، ومنه خرج إمام الدين والدنيا الشيخ المراغى الذى أغلظ للملك فاروق الذى طلب منه فتوى بعدم زواج الملكة فريدة بعد طلاقه لها فقال له «أما الطلاق فلا أرضاه وأما التحريم فلا أملكه»، والذى أصر على تغيير البروتوكول الملكى حتى يدخل شيخ الأزهر والعلماء قبل رئيس الوزراء، والذى قال عنه العقاد «إذا وجد بعد الشيخ محمد عبده من يستحق لقب الأستاذ الإمام فهو الشيخ المراغى». كان قبل المشيخة موضع ثقة المراغة كلها، وكان المسيحيون يتركون ودائعهم لديه، وكان يعادى الإنجليز ويكره استغلالهم واستعمارهم لمصر ويجاهرهم بذلك حتى كتبت «التايمز البريطانية» عنه «أبعدوا هذا الرجل إنه أخطر على بلادنا وحياتنا من ويلات الحروب» فهو الذى جمع التوقيعات لسعد زغلول، وقد استقال اعتراضاً على تدخل الملك فؤاد فى شئون الأزهر، ولكنه عاد أمام إلحاح المظاهرات الطلابية الحاشدة التى طالبت بعودته، وهو أصغر من تولى مشيخة الأزهر 47 عاماً ومن أعظم حكمه «آتونى بما ينفع الناس وأنا آتيكم بالدليل»، كل من عاشره قال إنه بلغ النهاية فى الخلق والتهذيب، ونعاه حينما مات مئات الآلاف، منهم من ليس على دينه، مثل مستر «دوبلس» رئيس مجلس الكنائس ببريطانيا، وقد سئل الشيخ الطيب شيخ الأزهر الحالى من أعظم أساتذتك؟ فقال: عبدالحليم محمود؟ وماذا أنت فاعل بالأزهر؟ قال: سأعيد له عهد الشيخ المراغى، وكان ذلك فى بداية صعوده كرسى المشيخة.
ومنهم الشيخ محمد سيد طنطاوى، الذى يعد أكثر شيوخ الأزهر من ناحية الإنتاج العلمى بعد الشيخ د/عبدالحليم محمود، الذى كان يعد موسوعة متحركة، فقد بلغ الإنتاج العلمى للدكتور طنطاوى20 مؤلفاً، أهمها التفسير الوسيط، وقد طُبع قرابة 13 مرة، وهذا من بركات الشيخ الطنطاوى، ومنها اليهود فى القرآن والسنة، القصة فى القرآن الكريم والفقه الميسر. وأهم ما يميز الشيخ هو أن ظاهره كان مثل باطنه، وكان شفافاً وصريحاً لدرجة عرضته لهجمات كثيرة، وقد حاول الشيخ طنطاوى إنقاذ الشباب المتدين والمتطرف من السجون، حتى إنه قال لبعض الشباب قبل بداية إحدى ندواته «يا ولاد أنا أريد إنقاذكم من مصير مظلم أريد إنقاذكم من الموت»، ولكن لم يتفهم أحد رسالته وقتها، فقد كان على دراية بخطط الحكومة وقتها إن لم يستجب هذا الشباب لدعوته ويرجع عن طريق العنف والتطرف طوعاً على يده، وقد ظُلم الشيخ طنطاوى من الحركة الإسلامية التى لم تتفهم وقتها فى عنفوان شبابها وحماستها رحمته بهم وحدبه عليهم وإشفاقه على مستقبلهم، فأمطرته الحركة الإسلامية المصرية بوابل من السباب والشتائم غير مسبوق فى ندواتها وخطبها ودروسها وإصداراتها، مشكلة الشيخ طنطاوى أنه كان رجلاً صريحاً صادقاً فى زمن لا يتحمل صراحته، ومن حسناته الكبرى بناء صروح أزهرية كبرى فى عهده، منها المشيخة الجديدة ومركز مؤتمرات الأزهر العالمى وغيرهما.
وقد كان الشيخ طنطاوى محباً للإسلام والرسول، ويعشق البقاء فى المدينة إلى جوار حبيبه النبى، وقد حزن لانتهاء خدمته فى الجامعة الإسلامية بالمدينة، وبكى لفراقه لأنه كان يتمنى الموت إلى جوار حبيبه والدفن فى البقيع، فإذا بالقدر الرحيم يعيده إلى المدينة المنورة، ففى نهاية أحد المؤتمرات وقبل ركوب الطائرة بقليل من مطار المدينة إذا بالمنية توافيه فتتحقق أمنيته التى طالما عاش لأجلها، ولو كان وقتها راكباً الطائرة لدفن فى مصر، إنه الإخلاص الذى غمر قلوب هؤلاء المشايخ فجعل حياتهم كلها لله.
وقد أعقبه فى المشيخة دكتور أحمد الطيب من الأقصر، وقد تحمل وهو على سدة المشيخة ما لا يتحمله بشر، فصبر وعف عن منازلة السفهاء من كل الاتجاهات، وأخذ يطور ويفعل دور الأزهر فى صمت وأناة، متعففاً عن مغانم الكراسى أو هدايا الملوك والسلاطين، وليس هذا وقت الحديث عنه.