بعد عشر سنوات من المنع.. صلاة العيد فى مسجد محمد على.. سياحة وبهجة للأنفس
القاهرة لم تنم، رغم أنها تدق الرابعة فجرا، مآذن المحروسة تطل على الوافدين من علِ، والبهجة سيد الموقف، الطريق خال، والسماء تضفى بصيصا من إضاءتها، لافتات كتبت بالإنجليزية لإرشاد السياح، رواد المكان الدائمين، أعلى هضبة على أرض مدببة تحسس خطواته وبمجرد دخوله جلس القرفصاء أمسك بيمينه تليفونه المحمول فيما وقف صديقه فى وضع التصوير متخذا من قبة المسجد العريق خلفية له، تهفو حبات البلح أعلى نخلة تستقبل المكان، تعقبها لوحة رخامية مدون عليها تاريخ سابق لزيارة رسمية «افتتح الرئيس محمد حسنى مبارك قلعة صلاح الدين... » جاءوا جميعا من أماكن شتى، ليعيشوا اللحظة مهللين مكبرين، فالمكان أوصدت أبوابه عشر سنوات، فيما لم يتبق من اسمه سوى ذكرى لمؤسس دولتهم الحديثة، هنا مسجد محمد على.. يؤذن للفجر فيتردد «أحمد سيد» فى شرب رشفة من زجاجة المياه، فيعلق صديقه «اشرب متخفش الصيام خلص» اعتادت «شلتهم» أن تصلى العيد فى حيهم الشعبى بمصر القديمة إلا أن قرار وزارة الآثار بالسماح قبل أيام بالصلاة فى مسجد «محمد على» غير وجهتهم قِبل «القلعة»، أسوارها الشاهقة التى بناها «الأيوبى» لم يتمركز فوقها جندى يرقب القادمين، فاستبدلوا به كاميرات للمراقبة، باب خشبى كبير يعود لنحو قرن يشير إليه حسن عبدالجواد ويحكى لطفله عن عبق التاريخ، قبل أن يمرا من بوابة إلكترونية حديدية، «حسن» حضر مع عائلته كاملى العدد، مرتديا جلبابه الأبيض الأنيق، وتتزين ابنته بغطاء رأس لامع، ويتعثر صغيره فى جلباب تخطى قدميه بربع متر، فيما تذيلت الأم الحضور، وئيدة المشية، «أول مرة أحس إن البلد بتاعتى.. مفيش حاجة فيها متحرمة عليّا» يقولها هو بصعوبة أثناء صعوده درجات السلم الـ35 الموصلة للمسجد محاولا تنظيم أنفاسه، فيحيه ضابط شرطة «شدوا حيلكوا شوية.. كلها خطوتين وتلاقوا الجامع» الرجل الأربعينى جاء لتوه من الأهرامات «أنا صاحى وناوى أورى العيال آثار البلد اللى كانوا منعينها».. طاقة نورانية تطالعك فور وقوفك أمام الباب الرئيسى للمسجد، «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد» صدى صوت جماعى تبع كلمات إمام المسجد الصادر من مذياع مشوش، 365 مشكاة بعدد أيام السنة زينت السقف، تدلت منه عبر سلاسل حديدية محكمة. «لسه شوية.. هيأذن ستة إلا عشرة» يجيب بها مسئول الأمن على رجل عجوز يسأل عن موعد صلاة العيد، فتقاطع حديثه إشارات اللاسلكى، نصف الجامع ممتلئ ولم يتبق سوى ساعة، المكان له منبران الأول بجوار المحراب وهو خاص بمحمد على تعلوه آية «فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب»، ومصنوع من خشب محلى بزخارف ذهبية، والآخر خاص بالملك فاروق ذو لون أخضر، يتبادل المصلون الميكروفون ويناشد أحد الجالسين فى الصفوف الأولى الحضور الشدة فى التكبير، استلقى ثلاثة شباب على ظهورهم مولين وجوههم قبل تجويف القباب التى تزين أسقف المسجد، مفندين كلماتها الممهورة بأسماء الخلفاء الراشدين قبل أن تتحرك شفاهم بالصلاة على النبى حين وقعت أعينهم على كلمة «محمد رسول الله»، الأعداد بدأت فى الزيادة و20 دقيقة وتبدأ الصلاة، اتخذ البعض من الباب الخلفى للمسجد مستقرا له فوجود الأشجار أنعشت الأبدان وصفاء السماء زاد الأنفس بهجة، فلاشات كاميرات المصورين تضوى فى المكان، يستند أحدهم على «دكة المُبلغ» الموجودة فى مركز المسجد، محاولا التقاط صورة لطفلة تلعب بـ«بالونة».
فى عهد سعيد باشا كانت تقام خمس ليال من كل عام داخل المسجد وهى ليلة الإسراء والمعراج، ليلة النصف من شعبان، ثم ثلاث ليال من شهر رمضان هى ليلة 13 ذكرى وفاة محمد على باشا، وليلة 14 رمضان حين تم دفنه، وأخيرا ليلة القدر، الآن استطاع الحضور أن يتموا احتفالهم السادس بصلاة العيد.
محمد الحاج يضحك حين يتذكر رحلته المدرسية إلى المسجد وهو لم يزل فى الصف الرابع الابتدائى، الشاب الثلاثينى من سكان حى السيدة عائشة ودائما ما صلى العيد بمسجد السلطان حسن لذا يشعر ببهجة لوجوده داخل جدران المسجد «أنا فرحان جدا.. إزاى كنا محرومين من العظمة دى»، مؤخرة المسجد امتلأت عن آخرها بالسيدات فيما تظهر خلفهن «سقالات» تدلل على استكمال عملية الترميم، جدران المسجد مرصعة بكلمات فى حب الرسول منها «فاق النبيين فى خلقٍ وفى خُلُقٍ»، 5 دقائق ويحين الموعد، يذكر خادم المسجد الحضور بإخراج زكاة الفطر لمن فاته أداؤها، يردد طفل صغير كلمات «الله أكبر ولله الحمد» محركا بها رأسه فى حركة ثابتة كبندول الساعة، يهب المصلون فجأة ويبدأ الإمام فى شرح طريقة الصلاة، بعد التكبيرة الرابعة يصدر صوت بكاء لطفلة صغيرة فيربت والدها على ظهرها وهو يحملها على صدره أثناء الصلاة، ما إن يختم الإمام صلاته حتى يبدأ الجميع فى إخراج تليفوناتهم المحمولة لتصوير المسجد وجمالياته، أسامة البلهماوى يشبه حضور أول صلاة عيد فى المسجد بيوم 25 يناير «اللى محضرش الثورة من أولها محسش بطعمها وبرضة اللى مجاش صلى النهاردة بعد طول غياب فاته كتير» يقبض بيمينه على سبحة ويعزز بيسراه على كتف ولده الأصغر وهو يشرح له فنون العمارة الإسلامية، محمد أبوالعينين حضر من الهرم خصيصا للصلاة فى المسجد، يعدل نظارته الطبية ويقول «كنت مشتاق أزوره.. وبرضة قلت أفسح العيال» يضحك مضيفا «أهو نضرب عصفورين بحجر»، يبدأ المصلون فى مغادرة المسجد متجهين صوب الصحن الخارجى المطل على القاهرة من أعلى، تلملم سلمى رفعت عاملة النظافة بقايا الأوراق من على الأرض بسعادة معتبرة أن عملها «اليوم» هو أسعد أيامها طيلة 11 عاما فى خدمة المكان «العيد قبل كده مكنش له طعم.. واللى كانوا بيحضروا يتعدوا ع الصوابع» المرأة الأربعينية عزفت عن الحصول على إجازتها فى أول أيام عيد الفطر مفضلة الوجود مع المصلين فمنها «ناخد ثواب خدمة الناس فى الصلاة وأهو ربك بيرزق باللى فيه النصيب».. إشارات اللاسلكى تتردد فى المكان معلنة ضرورة إخلائه قبل أن يخبر مدير الأمن المصلين بأن أبواب القلعة تفتح رسميا فى الثامنة حينها قرر عدد غير قليل البقاء خارج أسوارها على أن يعاودوا الدخول فور فتحها ثانية، وسط جرى الأطفال وسعادة آبائهم.