لم أحضر جنازة أستاذى وأعز أحبابى «صلاح قانصو»، وهذا هو اسمه الصحيح بخلاف الاسم الشائع له وهو «صلاح قنصوه»، هذا ما عرفته منه بحكم صلتى الوثيقة به، وقد كان من أكثر الناس معرفة بأصول الأسماء والكلمات والمصطلحات، بجانب معرفته الواسعة بأصول العلوم والفنون. ومع ذلك، فإننى سوف أستخدم اسمه هنا كما شاع نطقه. لم أحضر جنازته، لأننى عندما تلقيت خبر وفاته من ابنته العزيزة (غادة)، يوم وفاته، انتابتنى حالة من الحزن العميق الذى يملأ الروح والقلب، فلا يستبقى معه شيئاً. استرجعت شريط صداقتنا الحميمة، إذ كنا نلتقى كل أسبوع ونتهاتف فيما بين ذلك من أيام الأسبوع. انتابتنى حالة من الرعدة التى ملأت جسدى وروحى. كنت أعرف أن صديقى الحبيب (صلاح) سيموت، وأن ملاك الموت يحوم حوله منذ أربع سنوات.. منذ أن داهمته جلطة المخ التى أصابت مراكز اللغة والذاكرة، حتى بات يتمتم بالكلمات، ولا يتعرف على أقرب الناس إليه. زرته منذ سنتين، ولم أقوَ على أن أكرر ذلك مرة أخرى. ولكن ما بقى فى ذاكرتى أننى حينما زرته يومها، قال له ابنه المهندس حازم: هذا صديقك، هل تعرفه؟
كان يتكلم بحروف غير مفهومة، ولكن «حازم» أتاه بورقة، فكتب «صلاح»: «هذا صلاح توفيق». وقع هذا من نفسى موقع الصاعقة: فاللاوعى حينئذ هو الذى يتكلم، حتى مع غياب الوعى، ذكر اسمه الأول ولقبى الثانى، وكأننا شخص واحد!
لا أنسى هذا اليوم ولا تلك اللحظة. أدركت ما أيقنت منه طيلة حياتى، وهو أن ما يقبع فى أعماق الروح يبقى حتى الممات.
لم أحتمل فراقه، رغم توقعى له، ولكنى احتملت أن أتلقى العزاء فيه بين أبنائه وأهله الكرام. قلت لنفسى: كن رجلاً -كما أنت- تتحمل الصبر والشدائد، ولا تختبئ فى مشاعرك وأحزانك التى لا يدرى أحد بها، وقل فى «صلاح» ما يستحق أن يُقال عنه، وما يليق فى تأبينه. فمن هو صلاح قنصوه؟
سبق أن كتبت مقالين عن صلاح قنصوه بمجلة «إبداع» فى أثناء حياته الطبيعية، وكان يحتفى بذلك ويعتز به.
هذا الأستاذ النبيل كان صاحب خبرة واسعة عميقة فى الحياة، إذ كان منخرطاً فى الحياة الثقافية والسياسية منذ كان طالباً، وعرف حياة السجن فى شبابه، حينما اعتُقِل بسبب موقفه السياسى، واشتغل باحثاً بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية حتى صار أستاذاً، ثم عمل بكلية الآداب جامعة الزقازيق، إلى أن طلبه الدكتور فوزى فهمى (رئيس أكاديمية الفنون آنذاك) ليترأس بعدئذ عمادة معهد النقد الفنى، ويسهم فى تدريس فلسفة الفن لطلبة معاهد الأكاديمية كافة.
كان صلاح قنصوه عقلية فلسفية فذة فى زماننا اليتيم هذا، الذى يكاد ينضب فيه العقل الفلسفى. تكمن عقليته الفلسفية فى الدهشة الخالصة التى كانت تنتابه إزاء مواقف وأحداث وآراء تمر على الآخرين مرور الكرام، ولذلك كانت آراؤه دائماً مدهِشة للآخرين، لأنها تطرح وجهة نظر لم تطرأ على البال. ولهذا قال لى أكثر من مرة الأستاذ مكرم محمد أحمد (وهو دفعة صلاح قنصوه فى التخرج فى قسم الفلسفة بآداب القاهرة): إن صلاح قنصوه هو أنبه أبناء جيلنا.
وعلى الرغم من أن الإنتاج الفلسفى لصلاح قنصوه لم يكن غزيراً، فإنه كان متفرداً وموسوعياً فى الوقت ذاته! ذلك أنه كَتَب فرائد تظل باقية عبر الزمن فى مجالات شتى، إذ كتب مؤلفات فى موضوعات متنوعة ومتباينة: فى فلسفة العلم، وفى مشكلة الموضوعية فى العلوم الإنسانية، وفى فلسفة القيم، وفى فلسفة الفن.
لقد رحل الفيلسوف من دون أن يلتفت إلى كتاباته أغلب المثقفين، وإن عرفوا شقيقه الناقد الكبير إبراهيم فتحى (وهو اسم مركَّب). رحل الفيلسوف فى صمت، مثلما رحل من قبل فؤاد زكريا. فهل كُتِبَ على الكبار عندنا أن يرحلوا فى صمت. ولو أن إحدى دور النشر أو هيئات وزارة الثقافة المعنية بالنشر قد تنبهت إلى أهمية هذا الفيلسوف، وتبنت نشر كتاباته التى لم تجد يوماً نشراً يليق بها، لخدمت بذلك الثقافة العربية خدمة جليلة.