كل عام وأنتم بخير.
يأتى رمضان مجدداً، نفرح ونستبشر وتتصاعد الآمال، ونعدّد المناقب والغايات العظيمة والمعانى النبيلة التى ينطوى عليها، بينما يتصدى بعض الكتاب والباحثين والمجددين لعدد من الأفكار والممارسات الخاطئة، التى تشوش على هذا الشهر الكريم، وتخصم من تجلياته الأخاذة المبهرة، التى هى سبب وجوده، وعناصر مكانته الفريدة.
سيجتهد المجددون والنقاد فى تسليط الضوء على بعض الجوانب السلبية، التى يتكرر التحذير منها عاماً بعد عام، بينما لا نشهد جديداً.
أولاً: ينصرف بعضنا عن المقاصد الدينية النبيلة لفريضة الصوم، ويفوّتون الفرص على أنفسهم، وعلى آخرين، للوفاء بهذه الفريضة على النحو المناسب، وما يعضدها من قيم وعبادات، تتكامل معها باتساق، لكى تأخذنا إلى الحالة الروحانية التى من أجلها وُجد رمضان.
ثانياً: يلجأ بعضنا إلى التغطية على الإخفاق فى مقابلة المقاصد الحقيقية لشهر الصوم عبر الإغراق فى طقوس شكلية، واستبدال أداء نصوصى وحرفى بالمعانى الروحية الحقيقية، بما يفرغ المعنى الحقيقى للشهر من مضمونه الرصين الفعال.
ثالثاً: سيعتقد بعضنا أنه مبعوث العناية الإلهية، لكى يضمن التزام الآخرين بما يعتقد أنه إرادة الخالق من فرض الصوم فى هذا الشهر. ولكى ينجح فى مهمته فسيعمل كـ«فرد شرطة دينية وأخلاقية»، ولن يتوانى عن استخدام الزجر والتهديد والوعيد، وأحياناً القوة، لكى يحقق رؤيته.
رابعاً: على عكس المقصد الذى نفهمه عن فرض الصوم خلال شهر رمضان، فإن هذا الشهر يتحول إلى سباق استهلاكى لا نعرف له مثيلاً على مدى العام. يفرط بعض الصائمين فى استهلاك المواد الغذائية بأنواعها المختلفة، ويساعد المجتمع، والقطاع الخاص، والدولة، على تعزيز هذا الميل إلى الاستهلاك الحاد، عبر حزم من السياسات والإجراءات التى تأخذ الشهر إلى معنى مخالف تماماً لما يجب أن يكون عليه.
خامساً: سنشهد التخمة الدرامية والترفيهية نفسها. ستتكدس المسلسلات فى أوقات المشاهدة المختلفة على الشاشات. وسيمارس صناع الدراما السياسة المعروفة نفسها، التى تجعل من شهر رمضان شهراً للمسلسلات، وليس شهراً للعبادة والروحانيات.
وبموازاة تلك التخمة الدرامية، ستبرز برامج الترفيه والمقالب، وبعضها يلعب على أوتار وغرائز أبعد ما تكون عن مقاصد الشهر الكريم، أو مقاصد الدين أصلاً.
وسيتم انتهاك الكرامة وحقوق الإنسان ببساطة شديدة، وسيجتهد الصائمون فى مشاهدة تلك الأعمال، ومشاركة مشاهد حادة ومخزية منها عبر وسائط التواصل الاجتماعى، وسيحدث هذا على مدار اليوم، سواء كانوا صائمين أو بعد الإفطار.
سادساً: لن تفوت منظمات المجتمع المدنى والمشاريع «الخيرية» الفرصة بطبيعة الحال. وستخوض سباقاً ضارياً، وتستخدم أدوات ملاحقة لاهثة، من أجل الحصول على تبرعات «أهل الخير». وفى طريقها لتحقيق أهدافها ستدفع الملايين لوسائل الإعلام، وستستخدم وسائل إقناع لا تتسق مع المعايير المرعية لحقوق الإنسان، وستنتهك حقوق المرضى والمعاقين، وستوظف فنانين مرموقين فى إعلاناتها لكى تقنع أصحاب الهبات بالتبرع لهذه الجمعية أو ذلك المشفى.
سابعاً: كم مرة سنسمع عبارة «بعد العيد»؟ كم مرة سيتم تأجيل الأعمال؟ كم مرة سيتم الالتفاف على الاستحقاقات؟ ستكون هناك تبريرات عديدة؛ لكن أهمها أن «نهار رمضان قصير»، وأن «الصوم لا يوفر طاقة مناسبة للتركيز وإنجاز الأعمال». سيتحول الشهر الكريم إلى مطية للتخفف من الالتزامات، والانصراف عن العمل، بداعى العبادة ومقتضيات الصوم.
لماذا نجد هذه التحذيرات والانتقادات كل عام تتكرر بالطريقة ذاتها، وعبر وسائط مختلفة، ولا يحدث أى تغيير يذكر، بل على العكس تماماً تتزايد الممارسات الخاطئة وتنحسر الممارسات الصحيحة؟
الإجابة موجودة عند علماء الاجتماع، وخصوصاً هؤلاء الذين اهتموا برصد عوائق التغيير الاجتماعى.
يقول عالم الاجتماع الشهير «فانزر» إن «الثقافات المتكاملة تميل إلى مقاومة أكثر من الثقافات الأقل تكاملاً، وتوفر بيئة لمقاومة أى تغيير مطلوب».
لدينا ثقافة متكاملة بوصفنا من أقدم الدول والمجتمعات المتماسكة التى عرفتها البشرية؛ وهى ثقافة قادرة على تشكيل نسقها الطقوسى والشعائرى بالشكل الذى يخدم رغبات أهلها، بصرف النظر عن مدى توافق تلك الأنساق مع أيديولوجية التنمية المفترضة والمتفق نظرياً عليها.
من بين عوائق التغيير التى تتمترس خلفها ثقافتنا أنها تستند إلى تأويل أيديولوجى فى أغلب الأحيان، وأنها تجد بين الأوراق الصفراء بعض ما يمتّن اتجاهاتها، وتعيد إبرازه واستخدامه لكى يعضد ميولها.
لدينا أيديولوجية تنموية نتحدث عنها، ونؤكد أننا نتبناها، لكن هذه الأيديولوجية تبدو أضعف من جملة من العوامل الثقافية والنفسية التى تتهشم على صخورها الصلبة.
ما زلنا أسرى لتراث نعرف أنه ينطوى على الكثير من العوار، ونخشى فى عديد الأحيان مقاربته بصورة ناقدة، لأننا نظن أنه معطى إلهى، وعندما يجتهد بعضنا فى تفنيد هذا الإسناد المصطنع، نتحول إلى وحوش ضارية فى هجومنا عليه، باعتباره يستهدف مرتكزاً حيوياً من مرتكزات حياتنا: الدين.
وبموازاة هذه العوامل الثقافية والتراثية والنفسية، تبرز جماعات المصالح التى تجد فى هذا التمسك بالعادات الضارة والطقوس الشكلية والممارسات غير الرشيدة مكسباً كبيراً.
بتحليل السياسات الرسمية فى مواكبة شهر رمضان لا نجد أنها تسعى إلى نقض هذا البنيان المصطنع الذى يحول الشهر إلى حفلة استهلاكية وإجازة مقنعة، بل ربما أنها تساعد على تكريس هذا المنحى، بانتهازية واضحة.
«أرباب الميديا» أيضاً ينظرون إلى شهر رمضان باعتباره فرصة ومغنماً، ليس لتحسين الشرط الإنسانى والروحانى، ولكن، للأسف، لجنى الأرباح عبر تحقيق الرواج بأى وسيلة ممكنة.
القائمون على المشروعات الخيرية ينتهزون الفرصة بدورهم، ويكرسون هذا الانطباع الزائف الذى يحضّنا على تصور أن الخير لا يصلح إلا فى رمضان، وأن بقية شهور السنة لن تصلح لممارسة التكافل والتضامن المطلوبين.
وإضافة إلى هؤلاء، هناك علماء الدين المفترضون، الذين يسعون خلال هذا الشهر إلى المحافظة على امتيازاتهم، عبر التأكيد على الجوانب الثقافية والشعائرية نفسها بموازاة الشهر الكريم.
وببساطة شديدة.. فإن هذا الشهر يجب أن يكون «معقداً»، وأن يكون إدراك المكاسب الروحانية فيه «صعباً»، وأن ينطوى على «أسرار وتجليات»، وأن يحفل بـ«التفاصيل الملغزة».. وإلا فكيف ستتعزز مكانتهم؟
لدينا فرصة سنوية لكى نتحرر من تلك العادات الخبيثة، وأن نعيد إلى هذا الشهر ألقه وقيمته التى أرادها الدين له.