بسبب تطورات جذرية متسارعة طرأت على آليات صناعة المحتوى الإعلامى وتوزيعه، بموازاة اختراقات كبيرة فى مجال تكنولوجيا المعلومات، تغيرت طبيعة الإعلام تغيراً جوهرياً، منذ مطلع الألفية الثالثة، بشكل يمكن أن يربك الجهود التنظيرية التى سعت إلى إرساء وظائفه وأدواره إزاء العمليات السياسية والاجتماعية المختلفة، ويفرض ضرورة إعادة النظر فيها.
وعلى عكس الكثير من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى شهدها العالم فى القرون الثلاثة الأخيرة، فإن التطورات التى طرأت على المشهد الاتصالى والإعلامى أثرت وتفاعلت فى مصر والمنطقة العربية بشكل ملموس ومتوازن مع مناطق العالم المختلفة، بحيث ظهرت ثمارها سريعاً فى البنية المجتمعية لمنطقة الشرق الأوسط مثل غيرها من مناطق العالم الأكثر نمواً.
تُبرز البيانات التالية ملامح المشهد الإعلامى الجديد فى منطقة الشرق الأوسط، والذى يمكن وصفه بأنه «مشهد الإعلام فى حقبة ما بعد (الإنترنت)».
فقد توصلت نتائج تقرير سنوى عن استخدام الأفراد على مستوى العالم لـ«الإنترنت»، وشبكات التواصل الاجتماعى، والهاتف المحمول، لعام 2018، إلى أن 304.5 مليون اشتراك بالهاتف المحمول تم تسجيلها بمنطقة الشرق الأوسط (التى تضم مصر ولا تضم غيرها من دول شمال أفريقيا) على الرغم من أن عدد سكان المنطقة نحو 250 مليون نسمة، بما يفيد أن عدد الاشتراكات فى الهاتف المحمول يتجاوز بوضوح عدد السكان.
ويظهر التقرير الصادر عن منصة إدارة وسائل التواصل الاجتماعى «هوت سويت» فى عام 2019، أن اشتراكات «الموبايل» تزداد بـ8 ملايين اشتراك، أى بنسبة نمو 2.7 فى المائة لعام 2018، مشيراً إلى أن 182 مليون مواطن فى الشرق الأوسط يصلون إلى «الإنترنت» بنسبة 71 فى المائة من سكان المنطقة.
ومن بين البيانات المثيرة للاهتمام أن نسبة استخدام «الإنترنت» فى قطر والإمارات بلغت 99 فى المائة، أما فى الكويت فبلغت 98 فى المائة، من إجمالى السكان.
وبخصوص مواقع التواصل الاجتماعى، بلغ عدد مستخدميها فى الشرق الأوسط 136.1 مليون شخص، أى نحو 53% من عدد السكان، كما دخل ستة ملايين مستخدم جديد، وسائل التواصل الاجتماعى فى عام 2018، بنسبة نمو 4.7 فى المائة.
ويلفت التقرير الانتباه إلى ملحوظة مهمة؛ إذ تبين أن نحو 46% من مستخدمى «الإنترنت» فى الشرق الأوسط، يدخلون إلى حساباتهم على هذه المواقع عبر الهاتف المحمول، أى 118 مليون شخص.
وفى هذا الصدد، احتلت مصر مرتبة متقدمة من حيث متوسط ساعات استخدام الفرد لـ«الإنترنت» من الهاتف المحمول، حيث يمضى المستخدم ما مجموعه 3.5 ساعة يومياً، بينما الإمارات العربية المتحدة احتلت المركز الثانى، بمجموع 3.48 ساعة يومياً، ثم السعودية المركز الثالث بمجموع 3.35 ساعة يومياً فى المتوسط.
تتسق هذه الأرقام مع تطورات عالمية مشابهة فى المجال ذاته؛ إذ وصل عدد من يتصلون بـ«الإنترنت» فى العالم إلى 4.34 مليار شخص، بنسبة 57 فى المائة من مجموع سكان العالم البالغ 7.5 مليار نسمة.
وتوضح البيانات أن مستخدمى «الإنترنت» يمضون أكثر من ست ساعات ونصف الساعة يومياً على الشبكة عالمياً، ما يشير إلى أن المجتمع الرقمى العالمى سيقضى أكثر من مليارين و200 مليون سنة على «الإنترنت» فى عام 2019.
وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعى آليات جذب لمستخدمى الإنترنت، إذ إن 45 فى المائة من سكان العالم (4.4 مليار شخص) نشطون عليها، و3.2 مليار شخص يدخلون إلى وسائل التواصل الاجتماعى عبر الهاتف المحمول.
ولا يتوقف رواد هذه الوسائط عن التزايد؛ إذ ارتفع عدد مستخدمى وسائل التواصل حول العالم بأكثر من 280 مليون مستخدم فى عام 2018.
ويحظى محرك البحث الشهير «جوجل» بأكثر معدلات الاستخدام فى عام 2018، ثم «اليوتيوب» الذى حصل على المركز الثانى، ويليه «الفيس بوك» فى المرتبة الثالثة.
وعند رصد نشاط الأشخاص على الإنترنت، أظهرت البيانات نمواً ملحوظاً فى الإقبال على شبكة «الإنترنت» فالدقيقة الواحدة شهدت ما يلى:
3.7 مليون عملية بحث على «جوجل»، 18 مليون رسالة نصية، 4.3 مليون مشاهدة فيديو على «يوتيوب»، 973 ألف تسجيل دخول فى «فيس بوك»، 375 ألف عملية تنزيل تطبيقات «جوجل بلاى وأبل ستور»، 174 ألف تصفح على «إنستجرام»، و481 ألف تغريدة، 187 مليون بريد إلكترونى، 38 مليون رسالة واتساب، 862 مليون دولار تسوق عبر الإنترنت، 266 ساعة مشاهدة على خدمة «نتفليكس» الرقمية.
وإجمالاً، يتوقع تقرير «هوت سويت» مستقبلاً «سلوكيات رقمية جديدة»؛ مثل استبدال لوحات المفاتيح للأجهزة الإلكترونية بأوامر صوتية وكاميرات، وأن يهيمن المحتوى المرئى على شبكات التواصل الاجتماعى، فيما تقدم التقنيات الجديدة تجارب رقمية أكثر ثراء للناس فى مختلف المناطق بالعالم.
تلك إذن هى ملامح البيئة الرقمية التى أصبحنا نعيش فيها؛ وهى ملامح تلخص الحالة فى عبارة تبدو قاطعة فى حسمها: «نحن ننتقل من عالمنا الواقعى إلى عالم افتراضى رويداً رويداً، وقد أصبحنا نعيش فى عالمنا الجديد أكثر من ست ساعات يومياً، فيما تتجه كافة المؤشرات الدافعة إلى تعزيز وجودنا فيه إلى الارتفاع.. وباطراد».
إذا صارت تلك المؤشرات فى طريقها، وبالوتيرة ذاتها، فسيكون العالم مجتمعاً مرتبطاً بالشبكة، وهنا ستذهب وسائط الإعلام التقليدية إلى الفناء بلا عزاء.. كما الأفيال تسير إلى مقابرها، وربما غير مأسوف عليها.
أما الإشكال، فيكمن فى أن تلك الوسائط المغادرة ظلت لعقود طويلة أدوات للتواصل والتأثير، بتاريخ مبهر واستثمارات ضخمة وبحوث ودراسات وآليات عمل؛ وهى أمور معقدة ومتراكمة، ستذهب طائعة إلى متحف التاريخ.
وسيكون الساسة والناشطون ورواد التغيير الاجتماعى وصُناع الإبداع مطالبين باجتراح طرق جديدة لمخاطبة الجمهور والتأثير فيه.
وعندما سينتبه كل هؤلاء إلى تفاصيل العالم الجديد، ويحللون سماته، فسيصطدمون بحقائق صعبة؛ فمراكز التأثير فى تلك الوسائط ليست قابلة للاستتباع والطى بسهولة، والتحكم فى مصدر الرسائل مسألة شبه مستحيلة.
تنشأ طبقة جديدة من المؤثرين غير التقليديين فى هذا المشهد، الذى يحفل بفاعلين غير محددى الملامح، ورغم أن المال وسلطة الجبر السيادية سيظلان عاملى تأثير معتبرين، فإن نسبة كبيرة من المؤثرين الجدد ستكون غير قابلة للامتثال والمطاوعة.