فى ذكرى «قطار العياط» «الوطن» فى رحلة على قضبان الموت
فى رحلة قصيرة بقطار الفقراء، من القاهرة إلى مركز العياط، داخل عربة متهالكة، تختصر معاناة المصريين وآلامهم اليومية، عيون ووجوه عابسة، تعب يكسو الملامح، وبشر تساووا مع أمتعتهم، كآبة تخيم على القطار، وكأن ذكرى محرقة نفس القطار والجثث المتفحمة حاضرة فى ذهن سكان المنطقة، الذين يضطرون لركوب نفس المخاطرة يوميا، بانتظار نهاية مشابهة فى أى لحظة.
24 أكتوبر الذكرى الثالثة لحادث العياط، حيث اصطدم قطاران بقرية جرزة بمركز العياط، على بعد 40 كيلو مترا من القاهرة، ما أدى لمقتل وإصابة العشرات من المواطنين، ومن قبلها ذكرى حادث قطار العياط «أيضاً» الذى أودى بحياة المئات، محترقين، عشية عيد الأضحى، بسبب «إهمال حكومى».
«هو لازم ندوق العذاب فى كل سفرية»، تصرخ سيدة أربعينية فى وجه بائع الترمس الذى اصطدم بها، من شدة الزحام، بالرغم من حرصها على السفر قبل العيد بعدة أيام، حتى تنجو من ازدحام القطار، لكن «مفيش فايدة». تحرص السيدة على زيارة أقاربها فى المنيا، كل عيد «بسبب اللى بنشوفه فى القطر، بقينا نكره نعيّد مع أهالينا».
تجلس السيدة على كرسى بالقرب من حمام القطار، المحشور بين كل عربتين، بينما تشير ناحيته، ممسكة بأنفها «ده حال بنى آدمين قاعدين جنب الحمام، والريحة هتقتلنا، وكمان فيه ناس قاعدة بين العربيات».[Quote_1]
يشارك فى الحديث محمود العسال، قائلا: «حتى لما ندفع فلوس أكتر، ونركب فى عربيات التكييف، نلاقيه بايظ، والفيران تنط علينا». ثم يشير إلى راكب نائم على المكان المخصص للأمتعة «حال القطارات مش هيتغير ولا نقول نظام سابق، ولا نظام حالى، ما فيش تطوير بيحصل». وبمجرد نزولك فى محطة العياط، تعود بك حالتها السيئة لحوادث القطارات التى تركت آثارا فى ذاكرتنا لن تمحى، وبالرغم من ذلك لم يحدث أى تطوير فى المحطة.
مزلقانات الموت
جرس مزلقان العياط يدق، يصيح محمد عبدالرحمن، رجل ثلاثينى، فى وجوه الباعة المفترشين على القضبان «القطر جاى، قوموا من على القضبان».
بزيه المتهالك، ووجهه المتصبب عرقا، وجبينه المقطب، يجلس عبدالرحمن فى حجرة لا تتعدى مساحتها «متر فى متر»، إلى جانب بائعى سمك رائحته تملأ المكان. يقول «باروح الشغل وماليش نفس أشتغل، بسبب الإهمال والحوادث اللى بشوفها كل يوم، بالرغم إنى من سكان العياط، والشغل قريب منى». ويضيف، «حتى الأوضة اللى عملاها الهيئة للحارس غير صالحة للبنى آدمين، عاملين الكرسى اللى قاعدين عليه مصطبة».
عاش محمد كغيره من سكان المنطقة، على أمل أن يتطور الوضع بعد الثورة للأحسن، «بعد الثورة وانتخاب مرسى، كنا بنحسب الدنيا هتتغير، لكن للأسف ساءت أكتر». يؤكد أن أحد زملائه أثناء ورديته أغلق المزلقان تماما، حتى لا يتسبب فى وقوع حوادث، «أخد جزا بدل ما يحسنوا أوضاع المزلقان». مشيراً إلى ضرورة أن يكون هناك تنسيق بين مجلس المدينة وهيئة السكك الحديدية «مجلس المدينة منتفع من وجود البائعين، لأنه بياخد منهم كارتة».[Image_2]
محمد يؤكد أن المزلقان غير مجهز بأى وسيلة أمان: «لسه لغاية دلوقتى المزلقان بسلسلة جنزير، بدل ما يكون أتوماتيك، والجنزير بيساعد الناس تعدى من عليه». ويشير إلى حمار يتخطى القضبان، قائلا «أقرب حادثة وقعت من يومين، طفل راكب حمارة، مايعرفش إن فيه قطر جاى، لولا إنى مسكت الطفل كان راح زى الحمارة اللى دهسها القطر». يتوقف قليلا، ثم يتنهد متذكرا الشكاوى الكثيرة التى قدمها لرئيس هيئة السكك الحديدية دون جدوى، «قدمنا شكاوى من الناس اللى بتموت على السكة، وتغيير المزلقان من جنزير لأتوماتيك، لكن من غير فايدة».
المزلقان غير مهيأ لمرور العربات، خاصة أنه يتوسط شارعين، كما أنه ضيق، والجنزير لا يغطى المنطقة بطولها، أثناء حديثه يأتى قطار على بعد عدة أمتار، «الجنزير مفروض يكون طوله 20 مترا، لكنه لا يغطى المنطقة كلها، السكة الحديد اكتفت بجعله 5 أمتار فقط، ويلفت محمد نظرنا إلى أن «تبليط» المزلقان غير سليم، ما يتسبب فى انقلاب العربات المحملة بأوزان كبيرة، ومن هنا تحصل الكوارث، ويوضح عدم صلاحية حالة المزلقان للتشغيل، ويصمت عدة ثوان ويستطرد «صوت وهيصة الناس والعربيات والبياعين، ممكن يخلينا مش واخدين بالنا من المزلقان».
تصريحات عديدة يطلقها المسئولون بأن التطوير سيحول المزلقانات من يدوية وبدائية تعتمد على الجنازير إلى بوابات أتوماتيكية، وكاميرات مراقبة «كل اللى بنسمعه عن التطوير مجرد كلام»، خلاصة رأيه أنه «مافيش حاجة تغيرت فى النظام القديم، ولا هتتغير فى الجديد». هذا ما يؤكده عم محمود، وسط كل تلك المصاعب لا يوجد سوى عامل واحد على المزلقان، لكن طبقا للائحة العمل لا بد من وجود عاملين فى الوردية. بينما شرطة السكك الحديدية مغيبة تماما عن المكان، فلا تقوم بأى دور أمنى فى المحطة، «ييجوا يوم وعشرة لأ، الله يرحمها الشرطة».[Quote_2]
الإشارات
على بعد خطوات من المزلقان، رصيف محطة العياط، يوجد برج مراقبة القطارات، جدران شكلها كما لو كانت مر عليها مئات السنين، دكك ومكتب ودواليب متهالكة، وأجهزة وقطع غيار غير صالحة للاستخدام، ووسط كل ذلك يعمل أهم قسم فنى فى الهيئة وهو الإشارات، المسئول عن سير القطارات واتجاهاتها.
التحكم فى سير القطارات هو وظيفة الإشارات «السيمافورات»، وهو الجزء الفنى الذى يبين مدى سلامة السكك والقضبان، وتعطى الإشارة «السيمافور» أربعة ألوان، أحمر ومعناه يقف القطار تماما، وأصفر يسير القطار بسرعة لا تتجاوز 30 كم فى الساعة، ثم أصفر متقطع معناه أن يزيد السائق السرعة، أما اللون الأخضر فمعناه أن يسير بسرعة 60 كيلو مترا فى الساعة، والأخضر المتقطع يسير بسرعة 90 كيلو.
يواجه قسم الإشارات واللاسلكى مشكلة نقص قطع الغيار واستخدام أجهزة موغلة فى القدم. «تليفونات الميجانيتو اللى من أيام الإنجليز لسه لغاية دلوقتى بيستخدموها بين مراقب البرج والبلوكات»، يقولها عبدالعزيز، مشيراً إلى إحدى السماعات رديئة الصنع التى لا يتم استخدامها بسبب سوء تصنيعها. «قطع غيار غير مطابقة للمواصفات بعد ما تشتريها الهيئة تتركن فى المخازن». فالهيئة لا توفر قطع غيار، والعاملون يعملون بمبدأ «مشى حالك»، يضيف ساخرا: «بنحاول نوفق، لو فيه جرار فى الورشة بنعمله عمرة، ناخد أجهزة منه ونحطها فى الجرار المفروض يمشى»، وذلك بسبب عدم اهتمام الهيئة بتوفير قطع غيار.
ويضيف، أن المشاكل التى تواجههم أن هناك أجهزة غير مدربين عليها كالأجهزة الموجودة فى الجرارات الجديدة التى لا تزال فى فترة الضمان، ولم يحصلوا على أى دورات تدريبية فى أجهزة الجرار. «ولا مهندس ولا عامل يقدر يقرب من أجهزة الاتصال، منعرفش نصلح فيها أى حاجة».
ويستطرد، المشكلات التى تواجههم سرقة الكابلات الموصلة بين الإشارات والسكك، ما يؤدى لتوقف الإشارات. «خاصة بعد الثورة بقت البلطجة عينى عينك، ومنقدرش نعملهم حاجة، فعلا شرطة السكك الحديدية مالهاش لازمة». قسم الإشارات واللاسلكى يتعلق بأجزاء فنية حساسة تحتاج لصيانة دورية. «المفروض يكون فيه صيانة دورية للإبرة اللى بين التحويلات، لأن ممكن القطر يتقلب لو الإبرة فى الوضع غير الصحيح، ودخلت فى عجل الجرارات».[Image_3]
بعد حادث العياط، أعلنت هيئة السكك الحديدية توزيعها تليفونات محمولة على السائقين تربط بينهم وبين مراقبى الأبراج الموجودة على طول الطريق، خاصة فى القاهرة، والمنيا وأسيوط، وطنطا، إضافة إلى تليفون لاسلكى بين السائق والكمسرى، ليكونا على اتصال فى حالة حدوث أى مشكلة. «لكن ده محصلش، مش كل المحطات مزودة بتليفونات محمولة، خاصة الخطوط الطوالى». ويقول معلقا: «حتى التليفونات اللى عملتها الهيئة رديئة، والتليفونات اللاسلكية لازم نخبطها على دماغها علشان تشتغل، وأجهزة الاتصال الموجودة فى الجرار لا نقوم بأى صيانة لها».
كارثة أخرى يتعرض لها ملاحظو الأبراج، إذ يتعرضون لسرقة أجهزة المحمول منهم وضربهم، حتى السكك والقضبان ومواتير تحويلها تتعرض للسرقة، «الحرامية مسميين السكك الحديدية منجم السكرى».
«إيه تى سى» الجهاز المسئول عن أمان القطار وتوقفه فى حالة حدوث إغماء أو توفى سائق القطار، ثمنه 18 ألف جنيه، يسرقه البلطجية من السائق ليبيعوه بـ 3 جنيهات، «المسئولين مش مقتنعين بالكارثة اللى بنعيشها، لو موتور التحويلة اتسرق، والعمال مكتشفوش، القطار ممكن ينقلب».
العامل البشرى:
عم عبدالله، خمسينى العمر، عامل نظافة بمحطة العياط، عموده الفقرى انحنى من جمع القمامة من على القضبان، «إحنا أساس الهيئة، لكن إحنا آخر من تهتم بهم الهيئة»، يقولها ساخرا مشيراً إلى القمامة الملقاة على القضبان وتحويلات القطار، ويستطرد: «كفاية المكاتب اللى قاعدين فيها غير آدمية، العامل إزاى هيركز ويشتغل كويس، وهو يفكر فى شغله بعد الضهر، علشان يوفر لقمة عيشه». يضيف فى إشارة منه للحكومة الجديدة، «بقالها 100 يوم، مشفناش حاجة لغاية دلوقتى اتصلحت».
يتحدث عم عبدالله، عن عامل الإشارة الذى لا يحصل على دورات تدريبية تؤهله للعمل على أجهزة حديثة، «العمال محتاجين تدريب، فيه أجهزة لاسلكية ما بيعرفش يصلحها لا العامل، ولا المهندس»، يقولها مشيراً إلى أحد الأجهزة التى اعتبرها العمال خردة، بسبب عدم قدرتهم على تصليحها، «لسه شغالين على أجهزة الإنجليز، مش بنتطور». مؤكدا أن العمال يعملون بمنطق «اللى بيشتغل زى اللى ما بيشتغلش»، فيما يبرر ذلك بقوله «المفروض إنه يكون فيه حافز زيادة أعطال تشجعنا إننا نصلح الأعطال، لكن الحافز ثابت، وكلنا بنتساوى فى الآخر فى الحوافز». ويضرب عبدالله مثالا واقعيا فيما ينفعل بشدة، ويشير لأحد القطارات، «عامل المناورة المسئول عن تحريك القطارات، لا بد أن يعطى إنذار بصفارته للناس والعمال اللى على السكة، بإن فيه قطر، بدل ما كل يوم والتانى واحد يموت، والتانى تنقطع رجله» معلقا: «تلاقيه قاعد بيفكر يجيب الجنيه منين».
يتذكر عبدالله أن من بين أسباب حادث العياط الأخير، ترك عامل أبوعمار، أقرب نقطة من وقوع الحادث، لعمله، مضيفا: سوء توزيع العمال الإدارى يتسبب فى مشكلة كبيرة فالعامل من المنيا، يعمل بكفر عمار، والمسافة بينهما 102 كيلو، «علشان كده خرج بدرى وساب عمله». موضحاً أن كشف حوافز العمال تندرج فيه بنود لحوافز، لكنها فى النهاية لا تتعدى عشرات الجنيهات، فى حين أن المهندسين يحصلون على آلاف الجنيهات.
من بين مشاكل العمال هنا، عدم وجود عمالة كافية، يقول عبدالله متنهدا: منذ عام 2007 لم يتم تعيين أحد، فالعمال الذين يموتون على السكة أو يخرجون على المعاش، لايتم تعيين بديل لهم، فيما عدا العقود المؤقتة، والعمال يهجرون العمل فى السكة الحديد لأن قيمة تلك العقود لا تجاوز 200 جنيه.
نظام التحكم المركزى
ملخصا أسباب حوادث الهيئة، «دى منظومة عايزة معدات وتدريب عمال وحوافز تشغل العمال». يقول سعد الدين عشماوى، أستاذ تنظيم النقل، ورئيس الجمعية العلمية للنقل، إن الهيئة تعانى من خلل فى المنظومة كلها، ذلك الخلل ليس موجودا فى عنصر واحد فقط، وإنما شبكة متماسكة من العناصر الرئيسية.
مضيفا: لتطوير هيئة السكك الحديدية، نحتاج لمنظومة تطوير على كل المستويات والاتجاهات: تجديد 1600 كيلو من القضبان مع تطوير المزلقانات وتحويلها من يدوية إلى أتوماتيكية، وإصلاح منظومة الإشارات وتحويلها جميعا من ميكانيكية إلى كهربائية. ويضيف عشماوى، أن معدلات التطوير والتجديد ضعيفة، وغالبا يتم التركيز على شكل المحطات، دون الاهتمام بالبنية الأساسية والأوضاع الفنية، وبالتالى لا نشعر بأى تحسن فى مستوى السكك الحديدية.
تحقيق تلك الأهداف يتطلب تنسيقا على مستوى آخر، مؤكدا أن تطوير المستوى الفنى للسكك الحديدية لن يتم إلا فى حالة وجود تنسيق بين الإدارات المختلفة وتدريب العمال على الأجهزة الفنية.
يعلو التأثر والحزن وجه عشماوى كلما تذكر حادث العياط، ويؤكد فى أسى «هناك نظام تحكم مركزى موجود ببنى سويف، كان من الممكن أن يمنع وقوع الحادث فى حالة تشغيله». ويقول «نظام التحكم المركزى، المصروف عليه ملايين بيعملوا بيه إيه؟ ده نظام بيتحكم فى القطارات عن بعد، وكان ممكن نتصل بمراقبى الأبراج، فيتصلوا بالسائق، ليوقف القطار».
نظام الإشارات لا يزال قائما على نظام خلو السكة، وعدم دخول القطار للمحطة، إلا فى حالة خروج القطار الذى يسبقه. «العالم كله ماشى بنظام الإشارات الكهربائية، التى تقلل من تدخل العامل البشرى، والشغل بيكون بالضغط بالأزرار، واحنا ماشيين بأنظمة بدائية تكسفنا قدام العالم، واحنا أوائل الدول اللى استخدمت السكك الحديدية والقطارات»، يقولها عشماوى، ويرفض الاستطراد فى الكلام. «هنقول إيه ولا إيه زهقنا خلاص». يضيف: «لسنا بحاجة لمزيد من القوانين أو القواعد، وإنما نحتاج بشدة لتطبيق القوانين والقواعد الموجودة فعلا».[Quote_3]
منقذ قطار الصعيد
هو صاحب محل «الحلاقة» المتواضع، فى شارع الجمهورية، أشهر الشوارع القريبة من محطة العياط، كما يعمل خفيرا، قوة أعصابه وقدرته على تحمل أسوأ الظروف، ومساعدته فى انتشال الجثث فى أبشع حوادث القطارات التى شهدتها المنطقة، توجته بلقب «المنقذ». أحمد عبدالمنصف، أربعينى العمر، يعمل خفيرا الآن بجانب محل الحلاقة. «باشتغل غفير دلوقتى، لأن محل الحلاقة لوحده ما يأكلش عيش».
يحتفظ بألبوم صوره أثناء انتشاله لجثث الضحايا، قائلا: «أحس براحة نفسية لما بشوف الصور لأنى شاركت فى انتشال الجثث». شاربه الضخم، وملامحه التى تعبر عن قوته وجمود قلبه وهدوئه، من أهم ما يميز عبدالمنصف، يروى ذكرياته، وهو متكئ على «نبوته»، أهم حوادث القطارات التى كان لها دوى فى تاريخ السكة الحديد، «جمود القلب نعمة من ربنا سبحانه وتعالى، وأخدت عهد على نفسى إنى أساعد فى الحوادث، لوجه الله من غير مقابل». يضيف عبدالمنصف: خلال حادثة قطار الصعيد، كنت مع أصدقائى، فوجئنا بصوت الإسعاف والمطافئ، وتكرار عدد السيارات التى تمر، فضولى جعلنى أقرر الذهاب للمشرحة، فوجدت أشخاصا دون أرجل وأذرع، فقررت الذهاب لموقع الحادث، لأساعد فى انتشال الجثث، وكان يقع بين قريتى ماتانيا وبرغوتة، بالقرب من العياط. «كان فيه ركاب متقطعة ومرمية على السكك، لأنهم نطوا من القطار بسبب خوفهم من النار اللى كانت بتاكل فى أجسام الناس، ميعرفوش إن مصيرهم الموت برضه أو تتقطع حتة من جسمهم».
نقل المسئولون عربات القطار السبع التى احترقت، بعيدا عن السكة حتى لا تعطل حركة القطارات. «دخلت عربية لقيت كوم من الجثث المجهولة، منعرفش نفرق بين الراجل والست، الحريق ضيّع كل الملامح».
يتوقف عبدالمنصف لثوانٍ، ويستطرد فى روايته عن الحادثة: «كان فيه جثث رجليها أو إيديها بتتقطع منى وأنا بنقلها، فعلا كانت كارثة على مصر».
استمر عبدالمنصف فى نقل الجثث من الثانية منتصف الليل حتى الخامسة عصر اليوم التالى، بينما أصيب بجرح فى أصبعه من زجاج النوافذ المكسور، ترك علامة فى يده، حيث لم يعالجها حتى اليوم، بسبب الإهمال الشديد فى مستشفى العياط، على حد قوله.
يصف عبدالمنصف شكله بعد الانتهاء من مهمة انتشال الجثث. «كان لبسى كله دم، وصوابعى وحذائى فيهم بقايا لحم بشرى، فلبست كيس بلاستيك فى رجلى، وأنا داخل بيتى، علشان مراتى متخدش بالها». وداومت ما يقرب من شهرين على تناول أقراص منومة، لصعوبة المشاهد التى رأيتها فى الحادث «مكنتش بقدر أنام من اللى شفته».
بالرغم من أن حادث القطارين كان له صدى كبير، وعكس بالفعل سوء الأوضاع التى تنتاب هيئة السكك الحديدية، فإنه لم يتغير أى شىء فالسكة الحديد «هتفضل زى ما هى» وفى الـ 100 يوم «بتاعة الريس» أوضاعها ساءت أكتر. هكذا يلخص عبدالمنصف المشهد، الذى لا تزال ملامحه، عدم وجود شرطة الهيئة بشكل دائم، وتكرار حوادث السرقات، وغياب أساليب الأمان من النواحى الفنية بالهيئة. «الكمسرى من كام يوم، بلطجى خطف شنطة الفلوس والتذاكر، ووقعه من القطار، وكان هيموت».