تناولنا فى مقالنا السابق ما تتعرض له العدالة من انتهاك وامتهان عندما تستباح خصوصية المتهم أثناء القبض عليه، أو فى مراحل التحقيق والمحاكمة، وما يصاحب ذلك من تصوير تليفزيونى ممنتج يصاحب تلك المراحل وما يصاحبه من حملات التشهير والتحقير التى تحاكم المتهم قبل أن يحاكمه قاضيه الطبيعى وبشكل يجعل الرأى العام يحكم عليه قبل أن تقول المحكمة كلمتها، ونتناول فى هذا المقال صورة أخرى من صور امتهان العدالة والقائمين عليها والمناضلين فيها، لا تقل أهمية عما سبق أن تناولناه، لما تمثله من إثارة الرأى العام وتحفيزه ضد المتهم بشكل يؤدى حتماً إلى الوقوع فى جريمة التأثير على العدالة، لأنه ومن المحزن والمؤسف أن نجد وسائل الإعلام بكل أشكالها قد اتجهت إلى سلوك معيب تمثل فى تسمية القضايا الجنائية بأسماء مثيرة، وتسابق الكل فى اختيار اسم للقضية يجذب المشاهد أو المتابع أو القارئ بغير أن يكون لهذا المسمى صدى بالأوراق، فمثلاً أطلق الإعلام على إحدى القضايا المتداولة أمام القضاء عنوان قضية «حوت السكر» على الرغم من أن تلك القضية وما حوته من تحقيقات إنما يتعلق بعمليات ائتمانية ومصرفية بين المتهم وبعض البنوك المصرية التى يتعامل معها هو وشركاته، وبلغ عدد المتهمين فيها أكثر من عشرة أفراد، منهم رجال بنوك ورجال أعمال وخلافه ولا علاقة للقضية بالسكر سوى أن إحدى الشركات المساهم فيه أحد المتهمين تستورد بعض كميات السكر من الخارج، وهو ما لم يكن مثاراً بالأوراق، لكن الواضح لجوء البعض إلى تلك المسميات ابتغاء الإثارة والبروباجندا حتى إن كانت اسماً على غير مسمى، تحول الأمر إلى ما يشبه أفيشات السينما التى تحرص على اختيار اسم للفيلم يجذب المشاهد دون مراعاة للموضوع أو السيناريو، المهم أن يكون ذلك الاسم وكما يقال بالبلدى «بياع».
وانتشرت الظاهرة وتغوّلت على جهات التحقيق ومنصات العدالة، فرأينا العديد من الأفيشات (آسف أقصد الأسماء) لقضايا كثيرة، فمثلاً أطلق الإعلام على قضية أخرى لإحدى شركات الإعلان والإعلام اسم «إمبراطور ماسبيرو» فى حين أنه لا علاقة للقضية أو أوراقها بمبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو)، ولكن وقائعها كانت تدور بشأن علاقة تلك الشركات بمدينة الإنتاج الإعلامى، لقد أطلقوا العنان لاختيار أسماء رنانة وجذابة ومثيرة للقضايا، فهذه «نواب القروض» التى كان متهماً فيها 37 متهماً لم يكن منهم نواب بالبرلمان سوى ثلاثة نواب، فما ذنب باقى المتهمين الـ34، وما علاقة القضية بمجلس الشعب، لا شىء، ثم تلاها قضية «نواب سميحة» ثم قضية «المبيدات المسرطنة»، ثم قضية «بائع الدم الملوث»، ثم قضية «التوربينى» وهو اسم معروف لقطار سريع ينطلق من القاهرة إلى الإسكندرية دون الوقوف فى أى محطة أخرى، ولا علاقة للمتهم أو اسمه الحقيقى الثابت بالتحقيقات بأنه يدعى رمضان عبدالرحيم منصور دون ثمة علاقة له بلقب «التوربينى»، الأمر فقط كان يتعلق بأن ذلك المتهم كان يصطحب ضحاياه على سطح القطارات بمدينة طنطا ليغتصبهم، بالإضافة إلى أماكن أخرى فى محرم بك ومقابر المنارة بالإسكندرية ومينا البصل وخلافه، وليؤكد الإعلام رغبته فى التشويق والإثارة، فقد اختار لقضية الرئيس الأسبق حسنى مبارك اسماً مثيراً بأن سماها قضية «القرن»، فالأسماء كثيرة، والقضايا أكثر، لكن من المحزن أن أحداً لم يتحرك لوقف ذلك العبث الذى يتطاول على حقوق المتهمين، ويعصف بما كفله لهم الدستور والقانون من ضمانات، كما أن تلك السلوكيات البغيضة قد تمكنت من الرأى العام وجعلته مسايراً لما يعرض عليه من وقائع مغلوطة ومنبتة الصلة عما تحتويه الأوراق والتحقيقات مما يهدد منظومة العدالة ويخلق مناخاً من الانتهاكات القانونية المذمومة.
وهنا يحضرنى قضية شهيرة تم إثارتها عام 2006 وعرفت وقتها بقضية «تنظيم الرؤيا» وتهافتت الصحف وشاشات التلفاز وقتها على بث أخبار تلك القضية، ثم اكتشفنا مؤخراً أنها منبتة الصلة عن القضية، ولا علاقة للوقائع بما ينشر، إذ اكتشف كل من طالع التحقيقات أنها بدأت عندما رصدت أجهزة التنصت على المحادثات الهاتفية مكالمة بين أحد الأشخاص وصديق له يحكى له الأول أنه قد رأى فى المنام أن الرئيس حسنى مبارك قد تم اغتياله، وأفاض له محدّثه مما رآه فى منامه من أمور رآها عقب ذلك الاغتيال، وعليه وبعد رصد المكالمة توجه رجال الأمن وألقوا القبض على طرفى المكالمة، الحالم صاحب الرؤيا وصديقه، وامتد القبض إلى كل من تحدث معهما عقب تلك المكالمة وبلغ عدد المقبوض عليهم خمسة وعشرين متهماً، نسبت جهات الأمن إلى من رأى الرؤيا أن عقله الباطن كان يعمل أثناء النوم وأن ما رآه فى نومه ما هو إلا أمر دفين فى عقله ينتوى تنفيذه فى الصحوة ويتمنى حدوثه.
ورغم أن تلك القضية فى حقيقتها أمر مضحك وكوميدى، فإن أصحاب تلك القضية حتى الآن يواجهون المجتمع بعبارة «آه إنت من تنظيم الرؤيا» همّ يبكى، وهمّ يضحك، أن أصحاب تلك القضايا ما زالوا يعانون حتى الآن من تلك التسميات السينمائية، لدرجة أننى فى إحدى مناسبات العزاء وجدت من يقدمنى لأحد الأشخاص ويطلب منى مصافحته وعند سؤالى عن اسم ذلك الشخص الذى يدعونى للتعرف عليه، قال إنه «حوت السكر»، كما أن تلك الألقاب يتناقلها الأبناء والأحفاد، معلقة فى رقبة كل منهم وكأنها وشم وضع على جسدهم لا يمكن محوه، القاضى قال كلمته فى القضية والمتهم نال ما كتبه له المولى عز وجل سواء بالبراءة أو بالإدانة، لكن اللقب الذى التصق به ظل معلقاً فى رقبته أينما ذهب، سواء هو أو باقى أفراد أسرته، أن تلك الظاهرة الخطيرة القائمة على خطاب خادع واسم مثير ومغلوط، قائم على التورية، ممزوج بخليط يجمع جزءاً من الحقيقة مع كم كبير من أكاذيب ومغالطات مبهمة، يؤولها الرأى العام والمشاهد حسبما يرى، ولا يخفى على أحد أن إطلاق تلك الأسماء على القضايا والمتهمين فيها إنما بغرض الحض على الكراهية، ونبذ الطرف الآخر ونشر أحكام مسبقة عنه بما يصاحبه من رسم صورة سلبية عنه لدى المجتمع الذى يعيش فيه بما ينعكس على القاضى الذى يحاكمه، وعلى الشارع الذى يعيش فيه، وعلى العاملين لديه بمكتبه أو شركته وعلى أفراد أسرته وأزواجهم وذويهم.
يا سادة.. ارحموا مَن فى الأرض يرحمكم مَن فى السماء، اتركوا القضايا للمحقق والقاضى، ابتعدوا عن منصات الحكم التى أوكلها المولى عز وجل لقضاة شرفاء لا يبتغون إلا إرساء العدل على الأرض، من العيب علينا أن تمتد الأسماء إلى دوائر الحكم ليطلقوا على هذا «قاضى الإعدامات»، وعلى ذلك قاضى «7 الصبح»، لأنهم ما أرادوا إلا إرساء العدل على الأرض، حاملين على عاتقهم عبئاً لا يحتمله بشر أمام المجتمع وأمام الله.
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.