أُعلن مؤخراً عن انطلاق مؤسسة «تكوين الفكر العربى»، وجاء فى التأسيس: «العمل على تطوير التسامح، وفتح آفاق الحوار، والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلَّمات الفكرية، وإعادة النظر حول الثغرات التى حالت دون تحقيق المشروع النهضوى الذى انطلق منذ قرنين»، وهى أهداف لذاتها مشروعة، لكن أثيرت حالة من الجدل والاعتراض، بالنظر إلى الخلفيات الفكرية للمؤسسين.
والحقيقة أنه لا بديل فى مناقشة الأفكار المختلف معها، إلا الحوار والجدال بالتى هى أحسن، والتلاقى والتدافع الفكرى، وأما ازدراء الأديان، أو حمل السلاح، أو العنف أو التفجير نتيجة التكفير، فليس هذا بفكر، ولا حرية رأى، وإنما فتنة وزعزعة للوطن، تتولى الجهات الأمنية والقضائية أمرها.
لقد كتب الأستاذ إسماعيل أدهم كتاباً عنوانه: (لماذا أنا ملحد؟)، فردَّ عليه الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، بكتاب: (لماذا أنا مسلم؟)، والأستاذ فريد وجدى، بكتاب: (لماذا أنا مؤمن؟)، الفكرة بالفكرة، والكتاب بالكتاب، وفى عصر السيولة المعلوماتية يستحيل المنع والإغلاق...فإما أن ترد الفكر بالفكر، والمقال بالمقال، وإما أن تكتفى بالصياح.
وفى عصر السيولة المعلوماتية توجد مئات المنصات التى تدعو للإرهاب والتطرف والتكفير والتفجير والإلحاد، وفى تويتر فقط يوجد 14 ألف صفحة لتنظيم داعش، مع قنوات ومواقع ومنصات لجماعة الإخوان، ولا بديل إلا الوعى، وقيام الأزهر بدوره المحورى فى تفكيك كل فكر منحرف، وتنقية التراث وغربلته وإحالته حياً متوقداً، ومشعل نور، وإخراج ما فيه من كنوز وجواهر، ورفض ما فيه من شذوذ وغرائب.
لا حل إلا أن يقدم الأزهر الشريف مشروعاً علمياً كبيراً، يعمل على إنتاج تطبيقات معرفية صانعة للمؤسسات والحضارة، تسرى فيها روح مقاصد الشريعة، من حفظ النفس والعقل والعرض والدين والمال، ومحبة العمران، واحترام الإنسان، وتعظيم الأصل والأساس الأخلاقى، والانفتاح على العالم، وإفادته والاستفادة منه، وبروز قيمة الطفولة والمرأة، وحفظ البيئة، وحقوق الأكوان، والتسامح، وفتح آفاق الحوار، والتعارف، وقبول الآخر، والمراجعة النقدية، وطرح الأسئلة بلا سقف، والتواصل مع الأطر الثقافية المختلفة، وكل ذلك نمط من الحضارة الإسلامية وتطبيقاتها، تتسع للمسلم والمسيحى، والبوذى، والاشتراكى، والعلمانى، والليبرالى، واليسارى، والملحد، وسائر الملل والنحل، لا يشعر فيه أحد فى شئون المعاملة أنه مكره ولا مكروه ولا مضطهد، ومن لم يدخل فيه فإنه يستظل برحمته وعدله وشفقته وإنصافه، لأن هذا المشروع منتج للقيم، ناقل لها، باحث عن الهداية والتعارب والتقارب.
أما هوجة المناظرات والحوارات التى ظهرت على بعض الفضائيات من بعض المشايخ والدعاة، فهى حالة عبثية، استنزاف المشايخ فى معارك إعلامية هزيلة، اتضح فيها ضعفهم العلمى، وعدم إدراكهم للواقع، وأضحوا مادة للنكات والسخرية، وأظهروا سطحية وحماساً لا علماً وأكاديمية، لأنهم لم يتنبهوا إلى أن الحوار أو المناقشة حول الشبهات، مختلف عن الخطابة والوعظ.
إن هذا المشروع، هو مشروع قديم حديث، له 3 خصائص، تمثل أصول هذا المنهج:
1- تحويل النص الإلهى إلى النزعة التاريخية، مما ينتهى للنسبية.
2- نقد التراث الإسلامى من خلال إظهاره بعدم العقلانية، وإثارة نقاط تثبت أنه التراث غير مبنى على العلم، ولا يعبر عن روح النص القرآنى، وتسليط الضوء على الأفعال الشاذة لبعض الشخصيات.
3- ما بعد الحداثة: وذلك فى عدة صور: لا يوجد مقدس، ولا متفق عليه، وسيطرة النزعة الإنسانية بجعل الإنسان غاية، وإحلال العلوم الفيزيائية محل التراث، وفصل عالم الكون عن أصوله الغيبية، وسيطرة النزعة الفردية، باختزال كل شىء على مقاصد الفرد.
وقد قامت مناقشات ومناظرات وتدافع فكرى حول هذه الأصول بين عدد من الرموز الكبيرة من الطرفين، مع حفظ الألقاب: (على جمعة - محمد عمارة - أسامة الأزهرى - سليم العوا - الحبيب الجفرى، حاتم العونى - فاضل رسول)، والطرف الثانى: (سعد إبراهيم - جابر عصفور - مراد وهبة - إبراهيم عيسى - محجوب عمر - على الدين هلال)، وكانت مناقشات مثمرة، وتدافع فكرى راقٍ، فى جو بعيد عن الشحن والصدام والازدراء والاستخفاف بالدين أو بالأفكار أو بالعلم.
والمشروع المتخيل المقترح يشجع على هذا التدافع، ويتبنى هذا الحوار.