فشلت الثورة المهدية، وخضع السودان للحكم الثنائى البريطانى المصرى، وهو ليس احتلالاً بالمعنى القانونى، بل هو حكم إدارى مشترك.. واستمر ذلك نحو سبعين عاماً.
وهكذا.. فى يناير 1885 قامت الدولة السودانية المستقلة على أثر الثورة المهدية، وفى يناير 1956 استقل السودان فى شكله الحديث.
استقل السودان ليبحث عن طريق، وتعاقب على حكمه أكثر من نظام، إلى أن بدأت تجربة ديمقراطية فى السودان، وقد بقيت هذه التجربة حتى عام 1958، حيث نجح انقلاب عسكرى بقيادة «إبراهيم عبود» فى القضاء عليها، وقد رحل نظام «عبود» فى ثورة أكتوبر عام 1964.
عادت التجربة الديمقراطية عام 1964 ليتولى «الصادق المهدى» رئاسة الحكومة، وكان عمره ثلاثين عاماً، وفى مايو 1969 نجح الشيوعيون فى الانقلاب على التجربة، وتقدم «جعفر نميرى» السلطة، ثم سرق «نميرى» الثورة من الشيوعيين وأطاح بهم، وقد حكم «نميرى» السودان من عام 1969 حتى عام 1985.
جاء «نميرى» ليغازل بالإسلام الجميع، ويعلن تطبيق الشريعة. وحين التقيت الرئيس «نميرى» فى التسعينات، وكان قبل عودته إلى السودان يستقبل ضيوفه فى مكتب له فى منطقة الظاهر بيبرس بالقاهرة، توقعت أن أجد فى الرجل الذى حكم السودان طويلاً، وصديق مصر فى عهدى «السادات» و«مبارك»، والمساهم فى عملية التكامل وإنشاء مشروع جونجلى البالغ الفائدة لدولتى الوادى العربيتين، والمؤلف الإسلامى صاحب النظريات فى الشرع والشريعة، وعدو الشيوعية اللدود ومهندس هجرة اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل «قضية الفلاشا الشهيرة».. توقعت أن يكون الرجل الذى أجلس أمامه زعيماً من طراز خاص.. ولكنى وجدت رجلاً عادياً من الطراز الشائع، ليس فيه من الذكاء ما يلفت الانتباه، ولا من خبرة الحياة ما يوجب التقدير، ولا من رجاحة الرأى ما يتطلب الصمت!
ولما زرت السودان عام 2004، سألت عن الرئيس «نميرى»، وقلت: ربما كان الرجل اليوم أكثر حكمة وأفضل قولاً، ولكنى وجدته على فراش المرض.. وقد قيل لى إنه لا يقوى على استقبال أحد.
وبدا لى أن الرجل الذى رأيته قبل سنين، وهو يتحدث كثيراً عن آراء وأشياء كلها على هامش العصر، قد امتد به الزمن إلى حيث لا قدرة له على تحريك اللسان أو صناعة اللفظ.. إنها رحلة بائسة من هامش العصر إلى هامش العمر!
■ ■
أطاح الجيش بحكم الرئيس «جعفر نميرى» فى عام 1985، وترك المشير «عبدالرحمن سوار الذهب» الفرصة للتجربة الديمقراطية الثانية، ومنذ عام 1986 إلى عام 1989.. تولى الصادق المهدى رئاسة الحكومة فى السودان.
وجاءت ثورة الإنقاذ فى يونيو عام 1989 وهى ليست ثورة بل هى انقلاب عسكرى قاده «عمر البشير» ودعمه «حسن الترابى»، ولأن راية الإسلام لها من المؤيدين الكثير، فقد التفّ قطاع واسع من الرأى العام حول «الترابى»، وحول سلطة الإنقاذ.
ومثّلت تجربة «الترابى» وحدها نموذجاً لبداية ونهاية الشىء نفسه، فـ«الترابى» الذى اعتمد على رجال له من دارفور من أجل دعم الفكرة الإسلامية، قد أوصل الثورة إلى احتمال استقلال دارفور!
والرجل الذى جعل الموت فى الجنوب شهادة فى سبيل الله لا تعلوها شهادة، عاد ليُبطل فكرة الجهاد فيه وليدعو الله بالمغفرة لمن مات هناك!
والداعية الذى طمح مثل «عبدالله التعايشى»، الخليفة الثانى فى الثورة المهدية، فى تصدير الثورة إلى العالم الإسلامى، عاش ليرى السودان وهو يعانى انفصالاً فى الجنوب وأعراض انفصال فى الغرب وفى الشرق..!
■ ■
وحين التقيتُ الرئيس السودانى «عمر البشير» -كنت أحضر مع الدكتور «أحمد زويل» وقائع تسليمه وشاح النيلين المرموق- توقعت أن أسمع نفس الخطاب الاستعلائى للحركة الإسلامية، وكان «الترابى» قد دخل السجن قبل أيام. ولكنى وجدت الرئيس «البشير» يتحدث عن احتمالات كلها سيئة، قال الرئيس البشير: إننا نواجه خطراً من كل مكان، من دارفور ومن الجنوب ومن الشرق، وهو خطر يتهدد العرب فى السودان، ويدعمه الغرب.. الولايات المتحدة وإسرائيل.
والخطر المحيط بالسودان -حسب الرئيس البشير- يستهدف فى نهاية المطاف إقامة دولة غير عربية فى السودان، ثم عمل «تطهير عرقى» للعرب المقيمين فى الشمال النيلى، حتى يهاجروا شمالاً كلاجئين فى منطقة النوبة، ويصبح السودان بكامله بلداً زنجياً يعيش سكانه العرب كلاجئين فى دولة نوبية فاصلة بين الثقافة الزنجية فى السودان والثقافة العربية فى مصر!
■ ■
كان انقلاب «البشير» على «الترابى»، هو انقلاب رجل الدولة الذى يعرف حدود المخاطرة على رجل الأيديولوجيا الذى لا يعرف حدوداً للمغامرة.
فقد أدرك «البشير» ومعه نائبه القوى «على عثمان طه» أن الثورة التى يريدها «الترابى» مفتوحة فى الزمان وفى المكان، من شأنها أن تعصف بكل شىء، فالثورة الإسلامية التى تستهدف السيطرة على العالم لن يكون بمقدورها السيطرة على الخرطوم بعد قليل!
وقد سمعتُ من الرئيس «البشير» ما يشبه المراجعة وإعادة النظر، وهى مراجعة سبق هو نفسه أن عبّر عنها فى يونيو عام 2003 بقوله: «إن من حق أى شخص أن يقول إن النظام شمولى وتسلطى، إلا المؤتمر الشعبى -حزب الترابى- فلا يحق له، لأننا كنا قبلاً شموليين وتسلطيين، نقبض ونجلد ونسجن، وهذا كله فعلناه فى أيامنا الأولى عندما كانت القيادة الفعلية فى أيديهم.. لقد كنا شموليين وليس الآن»!
الجزء الثالث.. الأسبوع المقبل بمشيئة الله.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.