هذا العنوان مأخوذ من صورة شعرية دقيقة وموجعة جاءت فى قصيدة أمل دنقل «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، التى كتبها فى وقت هزيمة يونيو 1967، حين قال: «الفئران تلعق من دمى حساءها ولا أردها»!
هذه الصورة تقتحمنى هذه الأيام، ولا أملك الفرار منها، فهى أمامنا جميعا، ولم يعد هناك من يحتاج إلى شرح أو كلام، اللهم إلا هؤلاء المغرمون ببث الرسائل السلبية إلى وجدان الأمة لسلبها الوعى بحقها فى صد الفئران اللاعقة، بتلذذ، دماءها.
التاريخ يعيد نفسه إلى درجة الملل؛ لا أحد يتعظ، ، لا أحد يتعلم، لا أحد يستفيد؛ فى ظل كل هذا التوتر والعصبية والتربص الذى تشيعه مذابح واعتداءات وتحرشات الكيان الصهيونى، المدعومة بأمريكا، لضرب هذا وذاك لتغيير خارطة الشرق الأوسط، والوطن العربى، والأمة الإسلامية، وفقا للأهواء الجشعة والشعارات السوقية المبتذلة، تمهيدا لتأكيد هيمنة منطق القوة الباغية على الكرة الأرضية والتحكم فى مقدرات سكانها، وإخضاع الكافة لميزانها المطفف، ومكاييلها السارقة؛ استغرقت فى قراءة عدد من مجلة «الهلال»، صدر بتاريخ أول يوليو عام 1940، كان عددا خاصا عن «الحرب»، بمناسبة انضمام إيطاليا موسولينى إلى جانب ألمانيا هتلر، الذى أشعل الحرب العالمية الثانية سبتمبر 1939، واستطاع أن يبقر بطن أوروبا ويتوغل فى أحشائها بدعوى إفساح المجال الحيوى للشعب الألمانى للتغلب على الوضع الجغرافى «المطوق» لألمانيا، وبناء عليه التهم هتلر، خلال فترة وجيزة، النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والدنمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا وفرنسا، حتى تهددت إنجلترا، التى كانت الإمبراطورية العظمى المحتلة لبلاد عديدة لا تغرب عنها الشمس. اختارت إنجلترا فى لحظة الخطر ونستون تشرشل رئيسا للوزراء فى مايو 1940 ليقود جبهة الحلفاء ضد ما تم تسميته دول المحور بقيادة ألمانيا هتلر، وكان تشرشل قد وقف يقول فى مجلس العموم البريطانى: «... فإنى لست أذكر يوما من أيام الحرب الماضية كنا فيه أدنى إلى الخطر وأقرب إلى الزوال مما نحن فيه اليوم».
كانت إنجلترا فى ذلك الوقت تحتل «مصر»، ويقيم بالقاهرة مندوب احتلالها «المعتمد البريطانى»، يحكم بلادنا علانية، ويؤكد بوضوح لكل الأطراف أنه السلطة الفعلية العليا بها. ورغم أن الشعور الوطنى العام، فى ذلك التاريخ 1940، كان قد بلغ ذراه فى كراهية هذا المحتل الغاصب المذل لكرامتنا، ويرى أننا لا ناقة لنا ولا جمل فى صراع هذه الحرب بين معسكرين مجرمين يتنازعان الأسلاب والسرقات، وقد ترسخ فى أعماق أهل مصر، عبر السنوات المهينة المريرة، معرفة الكذبات المفضوحة للافتات «الحرية» و«الديمقراطية» و«الحضارة» التى كانت أجهزة الدعاية البريطانية تصرخ بها، مع حلفائها وأذنابها، مؤكدة ادعاءها أنها تدخل الحرب لتحمى «الإنسانية» من بطش النازية ووحشية الفاشستية - فإن الأمر لم يخل، طبعا، من أصوات عربية ومصرية وقفت تساند أكاذيب «الإمبراطورية البريطانية»، ونشرت هلال 1/7/1940 صوتا من تلك الأصوات النشاز، التى لا يخلو منها زمن من الأزمان، بقلم سامى الجريدينى، استغرق 5 صفحات يهتف بإنسانية المحتل القاتل لبلاده.
انتخبت «الهلال» مجموعة من أصحاب الأقلام وحددت الكتابة عن «الحرب»، كان أعمقها ما كتبه الدكتور أمير بقطر تحت عنوان: «التطورات الاجتماعية المنتظرة بعد الحرب الحاضرة».
لم يظهر الدكتور أمير بقطر انحيازه لأى كتلة أو معسكر، بل إنه بدا مزدريا لكل مظاهر الحماس المواكب لملعب الحرب ومقولات الزعماء فى عصره وما قبل عصره. ولم يخف شبح ابتسامة تهكم تعتريه بعد كل جملة طنانة يوردها مقتبسة من غيلان الحرب على كل جانب؛ يورد من أقوال اللورد كتشنر فى الحرب العالمية الأولى (1914 إلى 1918) قوله: «الاعتدال فى الحرب غباوة، فإذا ما خضنا غمارها وجب أن نوطد العزيمة على ربحها بأى ثمن كان، فلا الحقوق الشخصية، ولا شرف الفروسية، ولا وخز الضمير، يلزم أن يكون حائلا بيننا وبين النصر»! ويبين د. بقطر أن الناس فى فترة السلام تنسى الصيحات الخشنة: «تلك العاطفة الحيوانية الوحشية التى لا يزال الإنسان يكنها نحو أخيه الإنسان رغم العلم والنور والمدنية.. يقولون إن الكذب مباح فى ثلاثة: الحرب والصيد والانتخابات، بيد أن بعض الشعوب غالت أخيراً فى احترام القانون الدولى ومراعاة الآداب الاجتماعية، فكادت تروح ضحية غيرها من الشعوب التى لا ترعى للصدق حرمة، ولا للأمانة ذمة، والتى جاهرت فى مناسبات شتى أن الآداب الاجتماعية لا يمكن تطبيقها على الشئون الخارجية... !»، ثم يواصل: «... أعتقد أن العالم كله سيجعل البنادق والقنابل عمدته... وستضطر الحكومات، حتى أشدها ديمقراطية، إلى الأخذ بشىء من المبادئ المشتركة بين الفاشية والنازية والشيوعية المعروفة اليوم.. دل تاريخ الحروب على أنه سرعان ما تضع الحرب أوزارها حتى تكتسح بلدانها موجة طاغية من الانحلال الأدبى والتفكك الخلقى.. وليس هذا بغريب من الناحية العلمية، إذ إن الطبائع الإنسانية.. الوحشية.. تأخذ فى الظهور فى أبشع صورها وأخشن ملامسها كلما طعنت الأزمات طمأنينة الإنسان فى الصميم، وهددت كيانه.. لا بد أن يختل فى ختامها الميزان.. فتصبح الملايين من النساء بغير رجال، ويصبح الملايين من الأطفال بغير آباء، وتباع الكرامة وعزة النفس بأبخس الأثمان.. ستظل هذه الفوضى أعواما لا يعلم إلا علام الغيوب عددها، وتظل العناصر الاجتماعية تتفاعل كمواد الكيمياء حتى يصفو المزيج».
ما أشبه اليوم بالبارحة! إلا أن تحليل د. أمير بقطر لم يدرك ما تفتقت عنه العقلية الإجرامية الباغية لحل مشكلة «النساء بلا رجال» و«الأطفال بلا آباء»، وذلك بقتل النساء والأطفال فى عمليات «الإبادة» المنهجية المسجلة باسم الكيان الصهيونى والإدارة الأمريكية التى أكدها أوباما، فى خطابه بجامعة القاهرة 2009، بقوله: «روابطنا بإسرائيل غير قابلة للكسر»!