حينما كنا فى مرحلة الفتوة والتمرد، مرت مصر بظاهرة أو موضة الخنافس والهيبيز، التى تم اختزالها فى إطالة الشعر وارتداء (الشارلستون) والملابس الزاهية المشجرة، وكانت الظاهرة نوعاً من الترجمة أو المواكبة لحركات التمرد الشبابى فى أوروبا وأمريكا بعد المظاهرات الطلابية فى فرنسا 1968، التى كانت تعبيراً عن انتفاضة الهامش على المتن، والتخوم على المركز، ورفضاً عنيفاً لاحتكار النخبة للحقيقة وتحولها إلى وعاظ ومدعى نبوة، وحينما انتقلت الحالة الطلابية الفوارة إلى الجامعات والمدارس المصرية كان التعبير عن الرفض والتمرد مرتبطاً بطلب الحرب والثأر من الكيان الصهيونى، بالإضافة إلى الحريات ومحاكمة الفاسدين والمسئولين عن الهزيمة، وكان التعبير باستخدام الأزياء المزركشة والغريبة وإطالة الشعر أحد أشكال الخروج عن الأنساق السائدة فى العالم كله، وهو ما حدث فى الموسيقى وسائر الفنون فى مصر والعالم وتعرضت الموجة فى ظاهرها الشكلى لنقد شكلى أخلاقى خلاصته أن الشباب فاسد وغير منتمٍ، وأصبح التباكى على الماضى سمة لنخبة الوعظ الاجتماعى، ولكن وبرغم كل ذلك كان الضمير الجمعى للشعب المصرى محتشداً للمعركة وتوفير شروط القوة والتماسك فى الجبهة الداخلية.
فى تلك الأثناء كان الفرد متماهياً فى الجموع، حيث التوحد فى الإحساس والشعور والمسئولية، ففكرت فى إقامة معرض مقالات وصور فى المدرسة، أحاول من خلاله الدفاع عن التمرد الإيجابى لأجيال الشباب مع اختلاف أعمارهم، ولم يكن مدهشاً أن أجد كل التعاون والترحيب والدعم من مدير المدرسة الأستاذ عبدالرحمن سعد (وهو والد الصديق والزميل الكاتب الكبير عبدالله السناوى) وتكررت التجربة بعد ذلك، حتى حدث التحول الكبير بنصر أكتوبر، وفى الجامعة حاولنا درء مفاسد النظام السياسى فى انحيازاته الجديدة والكارثية.
وانتصرنا وانكسرنا، تحررنا واعتقلنا، حاولنا ونجحنا، وحاولنا وفشلنا، تقدمنا خطوة وتراجعنا خطوتين طوال العقود الماضية، ورغم كل ذلك ظلت تسمية «الشباب» لصيقة بجيلنا، حتى مع اقتراب الستين، أو تجاوزها لذلك كنا وما زلنا وسنظل داعمين لشبابية الحركة السياسية، وحركية شباب التغيير، لا باعتبارنا من أبناء المدرسة الطلابية فقط، بل لأن مطالبنا الثورية فى استعادة دولة الحرية والعدل الاجتماعى والوحدة ما زالت كما هى رغم كل التحولات التى حدثت، وبدون حيوية وإبداع وتمرد الشباب لن تتحرك الأوضاع خطوة واحدة.
وكنا عبر هذه المراحل الطويلة نلتزم معجماً أسلوبياً جاداً وربما يكون حاداً أحياناً فى التعبير السياسى، لكننا لم نلجأ إلى التجريس الجارح والتشويه المنهجى للأشخاص، ولم نخض حرباً نفسية ضد أحد، ولم نروج الشائعات للنيل من الخصوم.
فالألفاظ كالمواقف، منها السلمى ومنها العنيف، وفرق كبير بين النقد وبين التحريض والتعريض، فنحن ننتمى لقاموس كانت أبرز تعبيراته (إننا نهاجم المشروع لا الشخص - إن العبرة بتغيير المواقف لا الأفراد).
لكل الذى تقدم، فإن شعورى بالشفقة كبير يصل لحد البكاء، على الدور الوظيفى الذى يقوم به بعض شباب الإخوان فيما يسمى بالكتائب الإلكترونية، فمن الطبيعى أن يدافع هؤلاء الأبناء عن رؤيتهم ومشروعهم وجماعتهم، ومن المشروع أيضاً نقد الآخرين المعارضين لهم، لكن الأمر - للأسف- ليس فيه دفاع عن رؤية وليس فيه أى نقد للآخرين، بل مجرد حملات منظمة للتجريس والتشويه بلا أدلة ولا براهين، والسقطة الكبرى التى تحدث حينما يتغير موقف الشخص محل الهجوم فينتقل للخانة الأخرى المدافعة عن مشروع الإخوان، ساعتها تسقط المصداقية وتفشل الرسالة، أما إذا كان الهدف من التشويه هو الاغتيال المعنوى فقط، فالمؤكد أن ذلك لا يزيد فى رصيد رموزهم ولا مصداقية مشروعهم، لذلك أدعوهم لكى يتحولوا لطاقة بناء ودفاع إيجابى عن رؤيتهم، أما مهام التجريس والردح الأخلاقى فلا يليق بشباب شاركوا فى الثورة رغم أنف قيادتهم، ولا يتلاءم مع امتلاكهم للمهارات والقدرات التقنية. أما إذا كان العناد والإصرار هو سيد الموقف فرجاء حاولوا التجديد فى الأساليب والصياغات والردود وانشروا الوثائق الدالة على ذلك، فربما تحققت الفائدة وسطرتم صفحة مهمة فى أدبيات النقد السياسى.
أما بخصوص ما أتعرض له شخصياً من سباب واتهامات بالفشل، فليتكم تسألون قياداتكم، وكلى ثقة أنهم سيقولون الحقيقة ولو على سبيل الاضطرار؛ لأن الحق أبلج والباطل لجلج، والحقائق كإنجازات دائماً لها أقدام، أما ما دون ذلك فلا أقدام له.