في الفصل العامر بلوحات تحمل أناشيد مادة اللغة العربية، وخرائط مادة الدراسات و أجزاء من مادة الدين، دخلت "ميس الحساب" فانقبضت القلوب، لم يكن أمر تلك الرائحة الثقيلة التي تضعها باستمرار، يمر علينا بسلام، اقترن لدى أكثرنا بالعقاب العنيف، وتلك العصا الغليظة التي لم تكن تفارق يد "ميس أمل" حتى أنها لفرط حبها فيها كان تزينها بـ "شريط شيكرتون" وتمعن في اختيار ألوان مختلفة من عام لآخر، فمرة أحمر وأسود ومرة أصفر وأبيض وهكذا..
سواء تم إنجاز الواجب أو لم يتم إنجازه كان العقاب محققا، فإجابة واحدة خطأ كانت كفيلة بأن تذيق صاحبها ثلاث ضربات من تلك العصا المؤلمة، لكن القدر في هذا اليوم كان يبتسم لنا، فما إن دلفت حتى ابتسمت على غير العادة، قدرنا أنها لحظة صفاء نادرة من تلك التي رأيناها مرات معدودة، لكنها استمرت لفترة قبل أن تباغتنا "ها يا ولاد عاوزين تطلعوا إيه لما تكبروا؟" كان هذا هو السؤال التقليدي الأسخف على الإطلاق، سمعه أكثرنا لمرات ومرات منذ حملنا حقيبة مدرسة على ظهورنا في الروضة وحتى تلك اللحظة من دراستنا بالصف الخامس الابتدائي، حيث أعادت فيها السؤال على مسامعنا، سؤال لم يكن أكثرنا يملك إجابته حقا، فإن كانت قدرتنا على الاختيار بين نكهات الحلوى في الصباح معضلة، فكيف كان لنا أن نختار ما سنكونه في مستقبلنا.لم يكن ثمة إمكانية لعدم الرد أو إبداء الجهل بالرغبة، همهمت بصحبة زميلتي في "الدسك" مريم ورانيا كأننا نناقش الإجابة في البرلمان الصغير، لم تكن أي منهن تعلم أي شيء عما تردنه حقا، لذا دخلنا في نوبة من الضحك، كتمناها سريعا قبل أن تلحظنا الميس.مرت بالجميع، واحد تلو الآخر، وعلى وجهها ابتسامة فخر بالإجابات التي كانت تتراوح بين مهندس ودكتور و ظابط، اختارت كل من مريم و رانيا أن تكونا طبيبتان، إجابات الآخرين استدعت لمخيلة كل منهما مشهد البالطو والسماعة وجهاز الضغط ما أثار حماستهما لخيار كلية الطب، أما أنا فقد كنت الوحيدة التي خرجت عن النص "عاوزة أطلع صحفية".اختفت الابتسامة من وجه المدرسة، لوحت بعصاها في وجهي متسائلة "ليه يا ماما؟ إنتي عبيطة؟" لم أفهم سر غضبها آنذاك، لكنني لم أجرؤ على السؤال، فلم يكن ثمة مجال لمناقشة "ميس أمل" في أي شيء، خاصة وأنها أنهت الامر سريعا "اللي بعده".فكرت كثيرا في سرغضبها، كنت أحسبها ستحتفي بالإجابة الغريبة الوحيدة في فصلها، لكنها لم تفعل، فهمت فيما بعد سر غضبتها حين أشارت لي أثناء وقوفها بصحبة مدرسات أخريات قائلة "الفقرية عاوزة تطلع صحفية" لينخرطن في نوبة من الضحك الجماعي، قبل أن تهتف إحداهن "طاب اختاري حاجة عليها القيمة".ازدادت حيرتي، كان فيلمي المفضل آنذاك "بطل من روق" لم يكن اختياري أن أكون صحفية نابعا من أي تلقينات منزلية مسبقة، فقط هذا الفيلم الكوميدي كان دافعي للاختيار، حلمت أن أصبح في مستقبلي العملي "سوسن" صحفية تملأ حياتها المغامرة، و الإثارة، لم أتمنى قط أن أعمل عملا أجلس خلاله على مكتب.لم تفت سخريتهن في عضدي، واصلت الحلم ونجحت في الحصول على بطاقة المندوب الصحفي من إحدي مجلات الأطفال، وصلتني في جواب أنيق، رائع، كتب عليه اسمي مسبوق بـ "أنسة "، بالطبع فرحت للغاية، ليس بكلمة آنسة التي اعتبرتها مبالغة، ولكن بالحالة التي تركها في نفسي الخطاب، ورغم أني لم استعمل بطاقة المندوب الصحفي تلك، حتى يومنا هذا، قط، إلا أني كنت ولا زلت سعيدة بكوني صحفية – حتي لو اسما – منذ الصف الخامس الابتدائي.صحيح أنني أصبحت ما أريد، لكن الفضول مايزال يعتريني بشأن خطط زملائي هل استطاعوا تحقيقها؟ خاصة مريم ورانيا، وماذا عن "ميس أمل" كيف استطاعت تلك السيدة المتوترة، وسط يومها المثقل بالدروس الخصوصية وهمومها التي لم تخفيها يوما، بشأن زوجها المتطلب، والحياة التي لا ترحم، والأسعار التي لم تكن قد استعرت بعد، أن تتنبأ بأن المهنة التي اختارتها تلميذتهم الصغيرة لن تساعدها على أكل العيش، الحقيقة التي تثبتها عشرات الأبحاث والتقارير بشأن تدني رواتب الصحفيين والانقراض الوشيك للصحافة الورقية، لخصتها سيدة الحساب بجملة متقتضبة معبرة "إنتي عبيطة؟".