المؤكد أن قمة الرياض التى جمعت الرئيس الأمريكى ترامب باعتباره رئيس أقوى دولة فى النظام الدولى الراهن و40 رئيساً لدول عربية وإسلامية لكل منهم همومه الخاصة، تمثل حدثاً فريداً ونقطة فاصلة بين مرحلتين تاريخيتين، ورغم أن نتائج القمة لم تتبلور بعد، اللهم إلا الإعلان عن الاتفاقيات الهائلة عسكرياً واقتصادياً بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية وافتتاح المركز العالمى لمكافحة التطرف ومركز آخر خليجى أمريكى لمراقبة تمويل الإرهاب، فما جاء فى البيان الصادر عنها يؤشر إلى أن هناك عدة طموحات سعى المنظمون إلى تحقيقها، وهو أمر مشروع، ولا يُقيد منه إلا أن نعرف نحن الشعوب ماذا وراء تلك الطموحات، وإلى أى مدى يمكن أن تتحول إلى واقع ممزوج بالأمن والسلام والحرية أو غير ذلك، وهو ما يتطلب بعض التوضيح.
ففى دراسات النظم الإقليمية هناك ثلاثة معايير يتم عادة الاحتكام إليها لمعرفة حال النظام الإقليمى ومسارات تطوره المحتملة فى المستقبل القريب، وهى هيكل القوة وتفاعلات النظام وأولويات أو قضايا النظام ذات الاهتمام. ولو طبقنا فى عجالة هذه المعايير على نتائج قمة الرياض الإسلامية الأمريكية لوجدنا ثلاث نتائج مهمة؛ الأولى أن هناك سعياً جاداً من السعودية وبعض دول الخليج إلى تغيير هيكل القوة فى النظام الإقليمى الخليجى المُشكّل من الدول الخليجية الست، بالإضافة إلى إيران والعراق. ففى اللحظة الراهنة يمكن القول بأن هيكل القوة بشكل عام يميل ناحية إيران، ليس فقط لامتلاكها صناعات عسكرية متطورة ومتنوعة رغم كل القيود والعقوبات التى فُرضت عليها منذ ثلاثة عقود، ولكن أيضاً لامتلاكها استراتيجية نفاذ إلى عمق العديد من المجتمعات فى الخليج والجزيرة العربية وما بعدهما، الأمر الذى سمح لها ببناء قاعدة نفوذ دينى وسياسى واقتصادى وعسكرى ومعنوى فى أكثر من بلد عربى، وهو ما يشكل خصماً من نفوذ قوى خليجية وعربية كثيرة. وهنا نلاحظ أن المسعى السعودى الخليجى لتغيير هيكل القوة يستند إلى استدعاء النفوذ الأمريكى الطاغى جنباً إلى جنب العمل على توطين صناعة سلاح متنوعة بدلاً من شرائه بين الحين والآخر، والأثر المحتمل سيصب فى سباق تسلح سوف يستحوذ على الكثير جداً من الأموال، وبما يؤثر سلباً على المتاح لاحقاً لجهود التنمية والبناء ورفع مستوى المعيشة للشعوب. كما أن سباق التسلح ليس من شأنه أن يؤثر على قواعد النفوذ المعنوية والمذهبية، بل ربما يأتى بنتائج مضادة.
أما النتيجة الثانية فترتبط بتفاعلات النظام، وإلى أى مدى تنحو إلى السلام أو الصراع. والواضح أن منظمى القمة ركزوا على أن هناك تهديداً جسيماً يتمثل فى إيران ونظامها وسياستها الخارجية الداعمة للإرهاب والإرهابيين، وأن هذا التهديد يتطلب مواجهة شاملة باعتباره يهدد الإقليم المباشر، وهو الخليج، وكذلك النظام الدولى الأرحب من خلال دعمها لشبكات الإرهاب بأشكالها ومستوياتها المتنوعة. ومن بين أساليب المواجهة التى تم التركيز عليها أن يتم عزل إيران دولياً عن محيطها، وممارسة كل أنواع الضغوط عليها وتوقيع العقوبات الدولية عليها. وباختصار، فإن نتائج القمة تصب ناحية سيادة التفاعلات الصراعية بين الموافقين من الحاضرين فى القمة وبين إيران، بدلاً من البحث عن أساليب سلمية لتسوية الأزمات المشتعلة فى الإقليم العربى الأوسع، وهى الأزمات التى تاهت فى خضمّ أعمال القمة ويصعب أن نجد لها أثراً يُذكر.
أما النتيجة الثالثة فتتعلق بأولويات النظام الخليجى/ العربى الجارى بناؤه، وهى أولويات وقضايا النظام. وللتذكرة فقط فقد عاش النظام العربى بكل من منظومته الرئيسية وأقاليمه الفرعية دهراً طويلاً باعتبار أن القضية الفلسطينية هى القضية الأولى التى يجتمع من أجلها العرب فى المشرق كانوا أو فى المغرب، وأن الهدف الرئيسى هو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة فى مواجهة العدوان الصهيونى الإسرائيلى. هذا الأمر لم يعد موجوداً منذ عقد ونصف على الأقل، فقد تراجعت القضية الفلسطينية ولم تعد محوراً رئيسياً لتفاعلات النظام العربى ككل أو الخليجى الفرعى أو حتى المغاربى رغم فقدانه الطابع المؤسسى، وفى المقابل برزت قضايا وأزمات أخرى وصارت لها الأولوية. وفى السنوات الست الماضية صارت الأولوية لإسقاط النظام السورى ومحاربة التنظيمات الإرهابية والتمدد الحوثى فى اليمن وتآكل الدولة فى ليبيا رغم جهود المصالحة الدولية والإقليمية. ومع قمة الرياض فقد توارت هذه القضايا أيضاً وراء الشعار الكبير، وهو مواجهة إيران، باعتبارها المصدر والمنبع الرئيسى لكل أنواع الإرهاب، ومن ثم نجد أنفسنا أمام أولوية قصوى تتقاطع مع أزمات متنوعة، ولكنها تطرح باعتبارها القضية المركزية الآن لعمل النظام الخليجى، ويراد للنظام العربى أن يكون على النهج ذاته رغم صعوبة الأمر إن لم يكن استحالته، وبالنسبة للقضية الفلسطينية فلم تعد لها المكانة نفسها فى حسابات النظام الإقليمى الخليجى البازغ.
النتائج الثلاث تكتمل حين نبحث عن الآليات التى طُرحت لتجسد هذه المفاهيم الجديدة فى عمل النظام الخليجى الجديد، وهى حسب ما جاء فى البيان، استعداد عدد من الدول الإسلامية المشاركة فى التحالف الإسلامى العسكرى لمحاربة الإرهاب، توفير 34 ألف جندى كقوة احتياط لدعم العمليات ضد المنظمات الإرهابية فى العراق وسوريا عند الحاجة، وهو ما يعنى أن هذه القوة حال تشكيلها سوف تشتبك مع المنظمات ذات الصلة بإيران على الأراضى السورية والعراقية، والسؤال: هل سيكون ذلك بالتنسيق مع حكومتَى هذين البلدين أم بلا تنسيق؟ وهل يُعقل مثلاً أن توافق حكومة العراق على دخول قوات من جنسيات مختلفة لتحارب قوى مرتبطة بإيران على أراضيها؟ أما بالنسبة لسوريا فالمفهوم أن النظام الخليجى يستهدف إسقاط حكومة الرئيس الأسد المدعومة من إيران وروسيا، فمن سيقبل مواجهة إيران وروسيا على الأرض السورية؟ فهل سنبدأ حرب الكل ضد الكل؟
الأمر ذاته ينطبق على ما جاء فى البيان والمتعلق بما سمى إعلان نوايا بتأسيس «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجى فى مدينة الرياض» والذى ستشارك فيه عدة دول للإسهام فى تحقيق السلم والأمن فى المنطقة والعالم، علماً بأن غالبية الحاضرين لا ينتمون إلى الشرق الأوسط، والعبارة تتحدث عن نوايا، وهو أمر لم نجد له أصلاً فى أى كلمة من كلمات القادة الذين تحدثوا فى القمة. والسؤال المركزى هنا يتعلق بعلاقة هذا التحالف المزمع تشكيله فى العام 2018 والتحالف الإسلامى العسكرى، ومن سيضيف ماذا للآخر؟ أسئلة شائكة بلا إجابات.