لا أحتاج إلى المزيد من الجهد كي أخرج ما في قلبي كاملا عبر الكلمات، فالذكريات لا تبرح الذاكرة بمجرد الاقتراب من أيامه، فما تلبث اللحظات الأولى لاستطلاع هلاله أن تمضي، حتى تمطر البيوت أطفالا يتجمعون شاهرين فوانيسهم التي تصدر أصواتا تتنوع ما بين آذان يتناسب مع روح شهر فضيل، أو أغنيات تحتفي بقدومه صادحة: "أهلا رمضان.. رمضان جانا". منتصف الليلة ذاتها هو الموعد السنوي لنا مع "الحاج شتا"، الرجل الخمسيني، الذي يعتاد على زيارة أصدقائه ورفقائه بالمسجد، ليهنئهم بحلول شهر رمضان، مجهزا لهم ذلك الإناء البلاستيكي الممتلئ بالفول ليتناولو بواسطته أول سحور لهم في ذلك العام ويكون له الثواب، ولن تكتمل تلك الليلة إلا بارتداء الجد لملابسه واقتياد حفيده إلى المسجد لأداء صلاة الفجر في جماعة.. هنا أعلم، انا ذلك الطفل الذي لم أبلغ الخامسة من عمري، أن رمضان، قد حل أهلا وعم سهلا.
المشاجرة المعتادة تبدأ مع الساعات الأولى لاستيقاظي في أول أيام الشهر الكريم، فالأبوان الحبيبان يعارضان صيام طفلهما الصغير الذي يصر على رأيه ويزرف الدموع إذا نسي وتناول رغيفا من الخبز على حين غفلة من عقله، قبل أن يذهب الحزن عنه حينما يصطحبه أبوه، في جولة يعشقها، إلى "بائع الطرشي" حيث التجهيزات الأخيرة قبل انطلاق مدفع الإفطار، يتخلل ذلك صوت يصدر عن أدوات يعلم سامعها أن حاملها هو "بائع العرقسوس" الذي سيروي ظمأ الصائمين، ثم تكون عودة الطفل إلى بيته محملة بما يسعد قلبه، حيث يأتيه صوت "الشيخ الشعراوي" الذي يعشقه دون أن يعي دروسه، وما أن يستمع الطفل إلى صوت "الشيخ محمد رفعت" حتى يوقن عقله الصغير أن صيامه آن له أن ينتهي.
مائدة الإفطار لا تستقيم من دون "طبق البطاطس المحمرة" الذي تكون البداية، دائما، من عنده، ولا يحلو الطعام من دون حضور "عمو فؤاد راجع يا ولاد" أو "بوجي وطمطم" الذين كانا زائرين محببين لكل طفل مصري من جيل التسعينيات، غير أن الصغير ينهي إفطاره، على عجل، ليهرول إلى تلك الأريكة اللاصقة من تليفزيون منزله، لأن دقائق معدودة تفصله عن حبيبة قلبه "شريهان" التي ستظهر في ثوب "زئردة"، ولا يعنيه الفوازير التي تقدمها لأن صوتها العذب يكفيه للشعور بما تقوله.
الاختيارات لم تكن متعددة بالنسبة للمسلسلات في رمضان، غير أن ندرتها جعلت منها مصدرا لأجمل الذكريات في وجدان ذلك الطفل، فلا ينسى "علي بابا والأربعين حرامي" التي انهار من البكاء بعد انتهاء آخر حلقاته وكأن ضيفا عزيزا أعد العدة للرحيل، و"السيرة الهلالية" التي كان ينتظرها الصغير قبل الكبير رغم علم الجميع بحكايتها، ولا مانع من تمني الحظ مع "طارق علام" في "كلام من ذهب"، ونوبة الضحك التي لا تنتهي مع ظهور "إبراهيم نصر" و"كاميرته الخفية".
الطفل يكبر ويصير رجلا، يبحث عن "الحاج شتا"، العاشق لجيرانه، فلم يجده، ويمتلأ يومه بالأحداث لدرجة عدم قدرته على مصاحبة والده إلى "بائع الطرشي"، المحبب لقلبه، ويحتار وجدانه بين عشرات المسلسلات، كل عام، لا يكاد يتذكر منها شيء في العام الذي يليه، ولا يزال يسمع نفس الأغاني دون أن يجد مثيلا لها، ويظل يشدو: "رمضان جانا، وفرحنا بُه بعد غيابه.. أهلا رمضان".