لقد طرأت تطورات إيجابية على المشهد الدرامى الرمضانى هذا العام، وهى تطورات تبشر بإمكانية تعزيز هذا المشهد باطراد، ليصل إلى درجة مقبولة من التأثير والنجاعة، بما يتناسب مع مكانة مصر الفنية، ويلبى احتياجات جمهورها، ويحسن حضورها الإبداعى الإقليمى. وفى المقابل، فإن هذا المشهد الدرامى ما زال ينطوى على عدد من السلبيات الواضحة، التى يمكن من خلال الانتباه لها، ومحاولة تجاوزها فى المواسم المقبلة، أن تتكرس تلك التطورات الإيجابية، ويصبح أثرها أكبر وأعمق. تحتاج محاولة تحليل المشهد الدرامى الرمضانى الحالى إلى محددات يمكن من خلالها قياس مدى جودته وتلبيته للمطلوب من صناعة عريقة كانت مصر من أولى دول المنطقة معرفة بها وتفوقاً فيها. ومن تلك المحددات أن صناعة الدراما، سواء كانت تليفزيونية أو سينمائية، يجب أن تحظى برضا قطاع واسع من الجمهور، وأن تنجح فى تحقيق إيرادات جيدة من العرض الداخلى فى الأسواق المحلية، أو من خلال التصدير إلى الخارج. كما يُحبذ أن تخدم المنتجات الدرامية (التليفزيونية والسينمائية)، فى مجموعها العام، أهدافاً عليا تتصل بالمصلحة الوطنية، من خلال أنماط أداء احترافية غير زاعقة وغالباً ما تكون غير مباشرة، من دون أن يجور هذا على التعدد والتنوع اللازمين، وعلى حرية الإبداع.
يجدر الانتباه أيضاً إلى أن المنتجات الدرامية، بشقيها التليفزيونى والسينمائى، تتحول فى أحيان عديدة إلى وسيلة للتعريف بـ«الشخصية الوطنية» وبالدولة وبالشعب مُصدّر الدراما، وبالتالى فإن تركيز تلك الأعمال على ملامح «شخصية وطنية» إيجابية، وتأكيدها على قيم محددة، وانتصارها لأفكار بعينها، يسهم فى خلق الصورة الذهنية المطلوبة. ولذلك، فإن الأعمال الفنية الجيدة هى إحدى أهم وسائل القوة الناعمة، التى يمكن من خلالها تحقيق مصالح الدول، والتأثير فى محيطها الإقليمى والدولى، وتعزيز المكانة وزيادة النفوذ. فمن خلال السينما والدراما التليفزيونية، التى يتم التخطيط لها بشكل جيد، يمكن الانتصار لقيم وطنية معينة وتكريسها وترويجها، ويمكن استبعاد قيم سلبية وغير مواتية، وهو أمر يساهم فى تحقيق التغيير الثقافى والاجتماعى الإيجابى من جانب، ويعزز قدرة الدولة على الحفاظ على التماسك الاجتماعى والسلم الأهلى من جانب آخر. ويمكن من خلال تلك المحددات، صياغة عدد من الأسئلة، التى ستساعد الإجابات عنها فى معرفة مدى النجاح الذى حققه هذا الموسم الدرامى الرمضانى، على النحو التالى:
ما الصورة التى يمكن أن يستخلصها مواطن عالمى لا يعرف شيئاً عن مصر من خلاصة مشاهدته للمسلسلات المعروضة فى رمضان؟ هل تساعد تلك الصورة فى تعزيز مكانة مصر ونفوذها وزيادة جاذبيتها، أم تؤدى إلى العكس؟ هل تتفق تلك الصورة مع الواقع أم تفرط فى التركيز على جوانبه الأكثر سوءاً وبذاءة؟ ما القيم الوطنية والروحية والإنسانية التى تعززها تلك الأعمال، وما القيم التى تتجاهلها أو تعصف بها؟ هل تعتقد أن عدد المسلسلات المنتج فى رمضان مناسب لطاقة المشاهدة؟ وهل تعتقد أن تلك الأعمال جديرة بحجم ما يخصص لها من موارد وجهود وأنشطة إعلان وترويج؟ هل يمكن أن تكون هناك أعمال درامية ناجحة وممتعة ولائقة فى آن واحد (مثل ليالى الحلمية، والأيام، ورأفت الهجان)؟ هل تتصاعد قدرتنا على المنافسة فى سوق الدراما التليفزيونية الإقليمية أم تتراجع؟ هل لدينا عقل عام كبير يحاول أن يصوغ سياسة رشيدة للأداء الدرامى التليفزيونى أو السينمائى، عبر سياسات تحفيز أو تعزيز أو إنتاج أو تقييم ناجعة، بما يخدم أهدافنا الوطنية والروحية والإنسانية والفنية المتفق عليها؟
وفى محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة يمكننا أن نرصد وجود هذا العقل العام، الذى سعى إلى تطوير سياسة تستهدف تحقيق بعض هذه الأهداف، ولعل تصدر مسلسل «الاختيار» المشهد الدرامى الرمضانى الحالى يجسد عدداً من الإجابات الصحيحة عن الأسئلة السابقة. إذ اتسم هذا المسلسل بتلبية شروط عديدة؛ تتصل بالجودة، والجماهيرية، وخدمة المصلحة الوطنية، والقدرة على تكريس الأبطال والرموز الذين يعكسون أفضل القيم الإنسانية. بعض الأعمال الأخرى تحلى بقدر متباين من الجودة، إذ شهد هذا الموسم تنوعاً لافتاً بين قصص الصراعات الاجتماعية، والأعمال الوطنية، ودراما الحارة، والكوميديا، وصولاً إلى مقاربة نادرة لموضوع يتصل بالخيال العلمى. ومع ذلك، فثمة عدد من المشكلات التى يمكن بتجاوزها تحسين المشهد الدرامى؛ مثل المط والتطويل، الذى ينبع عادة من إصرار صناع الدراما على إنتاج 30 حلقة أياً كانت طبيعة الموضوع، وحجم الأحداث، ومدى تناسبها مع هذا العدد الكبير من الحلقات. يفقد المط والتطويل المشاهدين متعة المشاهدة، وربما يصرفهم أحياناً عن العمل، ويخصم بشكل واضح من جودة الدراما. ما زالت الإعلانات تطرح إشكالاً كبيراً لهذه الصناعة؛ ورغم أننا ندرك جيداً ضرورة وجودها وأهميته، إذ تمثل المورد الأهم للصناعة، وتضمن قدرة المنتجين على الاستدامة، وتحسن شروط الجودة، إلا أن المبالغة الكبيرة فى مدة الإعلانات المعروضة تظل عقبة فى هذا الصدد. وفق دراسة لمؤسسة «نيلسون» (Nielsen) الناشطة فى هذا المجال، فإن التليفزيون التجارى الأمريكى على سبيل المثال يعرض الإعلانات فى مدد تراوح ما بين 13 و 15 دقيقة فى كل ساعة برامجية، وحين نقارن هذه النسبة بما يحصل فى مشهدنا الدرامى الرمضانى نجد أننا نفرط كثيراً فى عرض الإعلانات، بما يؤثر فى جودة المشاهدة. الأعمال الكوميدية المقدمة هذا العام متباينة فى جودتها، لكن يبدو أن نمطاً هزلياً يهيمن عليها، عبر المشاهد المشوبة بالإسفاف، والقائمة على قدر من الارتجال غير المحسوب، التى لا تنطلق من نص مكتوب بإحكام، مكتفية بآليات «قلب المواقف» و«التكرار» و«إطلاق الإفيهات السمجة القائمة على التشابه بين الكلمات وافتراق معانيها». لا يخلق هذا كوميديا جيدة، ولا يضمن لها الاستمرار. تأتى أيضاً مسألة «ورش الكتابة» لتلقى بظلال سلبية على مجمل المشهد؛ إذ يبدو أن هذا التوجه أفقد الدراما قدراً لافتاً من تماسكها واتساق مشاهدها؛ وهو أمر يحتاج إلى مراجعة، كما يحتاج إلى التفكير فى إعادة الاعتبار للنصوص الروائية أو التأليف التليفزيونى المدروس، الذى يقوم على كاتب يعرف ماذا يريد، ويحافظ على خط درامى متسق ومتوازن. يبقى أيضاً أن نسأل: كيف يمكن أن نستعيد حصتنا فى أسواق الدراما الإقليمية؟