مع الشموخ الفنى لهذا النجم تجد مشقة فى كيفية الكتابة عنه.. أنت فى حضرة (أحد رموز الزمن الجميل.. مضرب المثل فى الإبداع جيل الستينات) تاريخ طويل وكبير وسيرة مهمة ومسيرة طويلة لفنان من أولئك الذين فهموها على حقيقتها.. رسالة تؤدى وأمانة وتكليف وعليه -وعليهم- أداؤها كما ينبغى أو تركها بإحسان!
يمكنك فى أى لحظة أن تتابع أعمالاً فنية قديمة.. من صناعة عالم «الأبيض والأسود».. ربما يكون فيلماً وأحياناً تمثيلية وغالباً مسرحية حتى تقفز من مكانك لتطرح على نفسك أو على من بجانبك السؤال الذى يتكرر كثيراً: «مش ده عبدالرحمن أبوزهرة»؟!
نعم.. هو عبدالرحمن أبوزهرة مع حفظ كل الألقاب.. هو الفنان الكبير الذى لم يترك مجالاً للفن لم يؤدِّ فيه فقط وإنما أيضاً أبدع كما لم يبدع فيه أحد.. ونادراً ما نجد من يبدع فى الإذاعة كما يبدع وعلى المستوى ذاته فى المسرح والسينما والتليفزيون رغم -والجميع يعرف- لكل من هذه التنويعات استعداداتها ومسئولياتها وطريقتها وأجواؤها.. فالسينما يدفع الجمهور ليراك، وبالتالى فكل اسم من الأسماء الموجودة على الأفيشات له حيثية وجود.. رصيد تحقق أو رصيد من المؤكد أنه سيتحقق.. كثيرة هى الأسماء التى خيّبت الظن وغابت وذابت وخرجت من دوائر النجومية والاهتمام ولم تعد.. ولكن كثيرة هى أيضاً الأسماء التى كانت عند الرهان عليها وعند حسن الظن بها، ولمعت ونجحت وانطلقت وكانت على الأفيش الأول كاختيار صحيح لنبوءة صحيحة!
وفى التليفزيون، حيث مسئولون يسألون من جهات عليا عن الفرص المتاحة وأسبابها.. خصوصاً فى زمان كانت فيه الدولة وحدها من تنتج ومن تتبنى ومن تقدم الأسماء كلها فى القصة وفى السيناريو وفى الإخراج وفى بطولة هذا كله..
وفى المسرح، حيث الدولة تنتج أو القطاع الخاص والفرق الخاصة، لكن هنا التحدى أكبر وأصعب.. الاسم على الأفيش والاختبار فورى بين الجمهور والفنان.. هنا كشف الهيئة المباشر والفرز الذى يجريه الجمهور، وإما الحضور التام وإما الانتظار باستجابة القدر فى فرصة أخرى قادمة والله وحده يعلم متى ستجىء!
وفى الإذاعة، حيث الصوت الذى يفعل كل شىء.. من إضحاك الناس إلى إبكائهم.. ومن الغناء لهم إلى الغناء عليهم.. لكن هنا نتوقف عند واحد من أخطر وأهم وأروع ما قام به عبدالرحمن أبوزهرة على الإطلاق.. صحيح أنه كان بديلاً لحسن عابدين فى «هيجننونى» الكوميدى الشهير وأداه باقتدار، ثم «مش معقول» وقبلها «شجرة الحب» و«أولاد حارتنا» و«الحب الضائع»، ربما قبل السينما و«عفاريت يحبون التسالى» و«ابن بطوطة يعود» و«وصية عمتى» و«يوليوس قيصر» و«زعبوط الخديوى» و«رز الملايكة» و«مزيكا وبولتيكا» و«مصرى فى بلاد برة»، وغيرها غيرها من أعمال إذاعية تشكل فى ذاتها تراثاً هائلاً ومشرفاً، لكن يستحق مسلسل «السندباد البحرى ومغامراته السبع» التوقف عنده، لأنه بلا جدال عمل عالمى من أول فكرته التاريخية الشهيرة المعروفة فى كل لغات الدنيا إلى أداء الممثلين و«أبوزهرة» فى صدارتهم إلى الإخراج والمؤثرات إلى جميع عوامل نجاح مسلسل إذاعى يأخذ مستمعه دون أن يشعر بعيداً بعيداً ويحلق به فى أجواء أسطورية حقيقية لن تترك أى فرصة لأى خيال آخر بعيداً عن العمل، وستظل مشدوداً منتبهاً تخرج من مغامرة إلى أخرى، ومن رعب إلى آخر، ومن تعلق آذانك بالمذياع إلى الحركة مع الممثلين كأنك تنصحهم أو تحاول تنبيههم وإنقاذهم فى عمل إذاعى كبير جداً لم يجرؤ أحد فى ما يبدو -من فرط جودته- من تحويله إلى عمل تليفزيونى لاستحالة الوصول بحالته المرئية إلى حالته الإذاعية!
وفى السينما نتذكر دوره الشرير فى «الجزيرة» من فوق سرير المستشفى مع بعض الأداء الصوتى عبر الهاتف، لكن لا يمكنك أن تكرهه أو تتخذ منه موقفاً، ولا يمكنك إلا أن تصدقه وتحترم أداءه!
لا أول لها ولا آخر الأعمال التى قام ببطولتها نجمنا الكبير متعه الله بكل صحة وعافية.. وكلها أعمال كبيرة ومهمة من المسرح الذى يبدو أنه عشقه الأول وأعمال «الفرافير» و«السبنسة» و«الحسين ثائراً» و«بداية ونهاية» إلى السينما من أول «الحرمان» و«السيد البلطى» و«الاختيار» إلى «المتوحشة» و«الشوارع الخلفية»، إلى «النوم فى العسل» و«طلق صناعى» وغيرها وغيرها.. ومن التليفزيون «نوادر جحا المصرى» و«الزائرون» و«أشرق الإسلام بالحب» فى بدايات التليفزيون إلى «أستاذ ورئيس قسم» و«عفاريت عدلى علام»!
هذا التاريخ الفنى المجيد لم يأتِ أو يتحقق بالصدفة ولا بالمجاملة ولا بالانتماء لشلة ما.. وإنما بالانضباط والالتزام والأداء الرفيع المحتشدة له كل الأفكار والقدرات من تنويعات فى الصوت وتسخير شامل للوجه والجسد والعيون مع تماهٍ تام مع الشخصية التى يؤديها، مما مكنه من القيام بالبطولة فى الأداء الصوتى (الدوبلاج) لعدد من الأعمال الكرتونية الأجنبية، وبعضها عالمية، ليتمكن من الإبداع فى مجال آخر يندر كما قُلنا أن يجمع فنان واحد بين كل هذه المجالات وينجح فيها جميعاً، متنقلاً بين الكوميديا والتراجيديا والميلودراما لنُصدقه فيها كلها.. ونحبه فيها كلها!
شفى الله فناننا الكبير وأعاده إلى أسرته وجمهوره وفنه ومحبيه.