وصلت أخيراً إلى شجاعة الاعتراف بأنى أكره الفن. الشعور أنا متأكّدة منه وإن كان التعبير عنه لم ينضج تماماً على لسانى، قليلون جداً الذين عبّروا قبلى عن مدى كراهيتهم للفن ولذلك فإن تراث التعبير فى هذا الموضوع قليل وغير متوفّر وهذا يجعلنى رائدة فى الحقل وهو أمر شاق، ومُقلِق إلى حد ما، وكل الذى وصلت إليه للآن هو خطوط عامة للفكرة تجرى كما يلى:
الاعتراف بأنى أكره الفن. رأيى أن الفنان ميّت يتسلى بالخلق؛ لقد وصلت، لدهشتى، إلى ملاحظة أن الفنان إنسان فشل فى تحقيق الحياة فهرب إلى الإبداع، وملاحظة أن الإنسان المتكامل السعيد هو الذى حقق حياته ولا يمكنه الخلق الفنى لأنه شبعان، وغالباً ما يصل صمم الفنان عن الحياة؛ التى هى زرع وحصد وثأر وحب ومثالية وبدائية وعرق وتعب ورجل وامرأة وإنجاب أطفال وموت، إلى عجزه عن الإحساس باللحم والدم، فنرى عطفه على بطله الذهنى أو تمثاله أو لوحته وقلقه على أسلوبه وقوالبه أكبر جداً من عطفه وقلقه على أقرب الناس إليه، وغالباً، كذلك، ما نجده لا يهتم بمتابعة الصحف لأنه يفضل العزلة ويكره البشر؛ يتحايل عادة باتهامات شتى يبرر بها كراهيته للبشر، وأكثر الاتهامات شعبية وانتشاراً اتهامهم بالتفاهة وعجزهم عن الفهم وبلادة الحس بينما هو غارق فى الشفقة على نفسه التى يعتبرها طبقة أرفع من الآخرين وجديرة باستثناءات خاصة.
فى كل مطالبة باستثناء أو امتياز يخبث عادة النتن، وهذا هو جبروت الميّت حقاً، مما يجعل أمر تقديس الفن من بواعث الضحك جداً: الفن هو الكفن الذى يجمع رفات الميت، (الذى يكون أحياناً مُحنّطاً إلى درجة بارعة لا يبدو فيها الميّت ميّتاً).
لن يوافقنى أحد على هذا الرأى؛ فالذين باع لهم الفنان الأوهام منذ عصور تاريخية قديمة من الصعب عليهم أن يعترفوا بسذاجتهم البالغة مبلغ الحماقة، ولكن كل إنسان كامل جمعته صداقة أو قرابة أو زواج أو تعامل مع فنان يستطيع أن يشهد بأن معاشرته مملة للغاية، وهناك الروايات التى تدور حول خيبة الأمل التى تنسكب على كل من قابل فناناً سبق أن أعجبه فنه.
(هذا بعض ما كتبته فى بيتى بمدينة نيويورك وأنا أنتهى من استكمال شهادة الماجستير فى نقد المسرح التى حصلت عليها، للعلم وليس للمباهاة، من جامعة نيويورك يونيو عام 1966، ولم يكن هناك ساعتها أى حس أو خبر عن تيارات إسلامية مؤثرة تغسل الدماغ من بعيد أو قريب بل على العكس تماماً؛ كانت التيارات اللادينية من جوقة اليمين واليسار هى المهيمنة على أروقة الفن والثقافة فى كل بقاع الدنيا، ولم تمنعنى، ولم تُحرّضنى بالتأكيد، تلك الأجواء من قولى هذا فى شأن الفنان، كما أنها لم تمنع الماركسى برتولد بريخت من أن ينتصر لرأى قاضيه «أزدك»، فى مسرحيته «دائرة الطباشير القوقازية»، الذى حكم بإدانة امرأة اشتكت متحرّشاً بها قائلاً لها: «إنك يا لودفيكا بإسرافك فى أكل الحلوى والطعام عامة، وبمكوثك طويلاً فى الحمام فى الماء الفاتر، وبكسلك وبشرتك الرخوة، قد هتكت عرض هذا الولد، هل تظنين أنك تستطيعين أن تتمخطرى فى كل مكان بمثل هذه الأرداف ثم تخدعين المحكمة؟ إن هذا اعتداء منك مع سبق إصرار بسلاح ممنوع»!).