شالوا الشجرة.. حطوا «نعمة»
بعينين محتقنتين بالاحمرار، وقسمات وجه مبثوث فى جوانبه علامات حزن وأسى، وأيدٍ متشققة مدسوسة فى جلباب قديم تخرج بين الحين والآخر لتهش الذباب. تجلس «نعمة محمد» متربعة على بطاطين بالية. تتوسط أولادها على رصيف ميدان الجلاء بالدقى، تحوطها نظرات المارة الفاحصة المتأففة من وجودها.
منذ عشرين عاماً، كانت «نعمة» تمتلك بيتاً فى الدويقة، لكن بلطجية سيطروا عليه بوضع اليد. فشلت فى طردهم واتخذت من الشارع مأوى لها. من رصيف إلى آخر تنقلت كثيراً حتى استقرت على رصيف ميدان الجلاء منذ حوالى 10 سنوات، مات زوجها وبقيت هى وأولادها جزءاً من الرصيف.
ترتشف «نعمة» من كوب شاى تدفئ يديها الباردتين وهى تحكى: «كنت قاعدة تحت شجرة فى أول الرصيف، كانت بتحمينا من البرد والشمس، بس المرافق قطعوها، فحوشت من شغلى فى تنظيف العربيات وعملت كشك صغير وجبت عدة شاى وبقيت أبات فى الكشك أنا وعيالى لغاية ما جت البلدية شالته، وبقيت أفرش بطاطين على الأرض وأنام على الطرف ومحمد ابنى فى الطرف التانى والبنات فى الوسط علشان ماحدش يتحرش بيهم وهما نايمين».
تتسلل الدموع على خدى «نعمة»، تمسحها بيديها وتكمل: «كان عندى 8 عيال، مات منهم 3 على الرصيف ده، بسبب البرد والمرض، ومكنش معايا فلوس أجيبلهم علاج ودلوقتى معايا 5، محمد 18 سنة، وحبيبة 16 وجنة 13 وناصف 6 وأحمد 7».
الأيام تشبه بعضها، تصحو الأسرة فى الثامنة صباحاً، ترتب فرشتها وتنشر البطاطين البالية على السور ثم تتناول الإفطار: «سندوتشات فول وطعمية»، بعدها تقف فى انتظار السيارات: «بنستنى العربيات اللى بتركن جنبنا نمسح الإزاز أو نغسل العربية، وبنخلى بالنا منها مقابل 2 أو 3 جنيه وساعات ناس بتدى 5 أو 10.. احنا ورزقنا».
يأتى الغداء محملاً بما لذ وطاب، لكن على مائدة «نعمة» الأمر يختلف، فالغداء إما كشرى من الشارع، أو وجبات بسيطة يرسلها البعض لها ولأبنائها: «كنت من فترة قريبة بطبخ، اشتريت حلتين وكنت بولع نار بين حجرين وأطبخ، بس للأسف الحلل اتسرقت». عندما يحل المساء، وتنخفض درجة الحرارة، لا تجد «نعمة» طريقة لحماية أبنائها من البرد سوى بضع خشبات توقد بها النار فتخفف لسعة البرد: «المشكلة إن الشتا برد قوى والصيف حر قوى لكن هنعمل إيه مش بإيدينا حاجة».
السيارات التى تسترزق منها هى أيضاً سبب فى تحرير محاضر ضدها: «بسبب العربيات دى شلت قضايا كتير، أى حاجة تتسرق أو تتخربش أو يحصل لها أى حاجة، صاحب العربية يعمل لنا محضر علشان إحنا اللى قاعدين، إحنا مالناش دعوة.. ولو بنسرق ماكنش ده بقى حالنا!».