نعتمد على سذاجتهم، على تصديقهم أننا بخير، وأننا الأفضل، والأكثر مثالية، هم يصدقون، ونحن ندّعى أننا نصدق. يمر الوقت، يصير الصغير كبيراً، ونصير نحن أكثر وضوحاً، وأكثر قابلية للقراءة والفهم.
كما يتحول كاتب طفولتك المفضل إلى كاتب عادى، حين تتحول كتاباته العظيمة بالنسبة لك، إلى مؤلفات ركيكة، نصير لدى صغارنا «معركة»، بين واقع مؤذٍ، وماضٍ خادع.
نحن خدعة الطفولة بالنسبة لهم مهما حاولنا أنا نصير عظماء، تنكشف الحقيقة لاحقاً، نحن بشر مذعورون يسيئون التصرف باستمرار وفى الخلفية أطفال يبكون ولا يتوقفون عن الطلب والإلحاح، أنا على وجه الخصوص مجرد أم سامة، ربما من الشرف أن يعترف المرء لنفسه بحقيقته، وإن كانت قبيحة جداً، فمعرفة المشكلة هى نصف الحل، ومعرفة مكاننا على أرض الواقع هى السبيل لمعرفة إلى أين يجب أن نمضى.
تفاجئنا الحياة أحياناً بأن الصورة الجميلة التى يرانا بها الآخرون أو نرى بها أنفسنا ليست حقيقية، اكتشفت أننى «أم سامة» حين شعرت بضيق شديد تجاه مرض صغيرى الذى التقط العدوى من شقيقته عقب أسبوع حافل بالقىء والمخاط والبكاء، لم تكد الصغيرة تعود إلى روضة الأطفال، كى أستعيد عملى من جديد، حتى مرض هو، ولم يكن جلوسه فى المنزل يعنى لى سوى الكثير من الطلبات، لأنه طفل بلغة التربية عالى المتطلبات «هاى نيد» وهذا ليس وصماً بل هو وصف لفئة من الأطفال تمتلك سمات وإمكانات وطباعاً خاصة جداً، تحتاج فقط إلى مَن يفهمها ويتقبلها، أما أنا فقدت تفهمت وقرأت وتعلمت، لكننى عانيت كثيراً حتى أتقبل.
يومها نظرت إلى نفسى فى المرآة وشعرت بأننى منافقة، المرأة التى يراها الناس أماً مثالية، متفانية، وجيدة، وتعتقد عن نفسها الأمر ذاته، وصلت إلى نقطة مرعبة، كان عملى فى ذلك الوقت ينهار وكنت ملزمة بترتيب الأولويات، لكن ما الأولوية حقاً؟ هذا سؤال مخيف، لم يكن أقل بشاعة من ذلك السؤال الذى طرحه علىَّ «يونس» بينما كنت أحاول إنجاز عدة مهمات فى وقت واحد؛ أكتب مقالاً عن التربية، وأرد على إيميلات، وأضع أفكاراً لموضوعات جديدة، وأدوّن قائمة بالمشتريات التى تنقص البيت، وأحاول أن أتذكر على وجه التحديد إن كنت قد سددت بعض المديونيات أو لا، ووسط هذا كله، كان عقلى يثب كل خمس دقائق إلى فيس بوك، طلباً للدوبامين المزيف، لايك، أو كومنت، أو ثناء أو شكر، فطرح علىَّ ابنى سؤالاً بمنتهى الغضب «ليه يا ماما؟».
ثم أعقب سؤاله بتعليق جارح حول قيامى بالكتابة عن الأطفال، بعدما رأى صورة لطفل صغير أختارها كى أرفقها بموضوعى، بينما لا أمنح لطفلى الجالس أمامى وقتاً كى يخرج ويحظى ببعض المتعة.
ما الأكثر إلحاحاً وما الأولى؟ أن أصنع بصحبة أطفالى ذكريات رائعة، أم أنكفئ على اللاب توب لساعات طويلة من أجل إنجاز عملى كى أتمكن من سداد اشتراك الجمباز الذى يفرغ طاقة الحركة لدى سائلى، والسباحة التى تتقنها شقيقته منذ عمر مبكر؟ وكى أتمكن من امتلاك ثمن الكشف إن مرضت، وشراء الاحتياجات الأساسية، كى أشعر بأننا «مستورون».
أنا أمٌ سيئة فى روايته، أمٌ تضيع يوم الإجازة الأسبوعى فى إنجاز أعمال إضافية كى تتمكن من الوفاء بالتزامات خاصة بها، ظاهرياً أنا مشغولة عنه، لكن حقيقة أنا مشغولة به ولأجله، ما الأصوب؟
الخيط رفيع جداً بين سد الاحتياجات، وخلقها، بين تعليم تحمل المسئولية والقسوة، بين شغل الوقت لإفادته، وإلهائه للتخلص من إلحاحه، هنا فهمت لماذا اختار أبوالعلاء أن يكتب على قبره: «هذا ما جناه أبى»، فالحقيقة التى اكتشفتها أن مَن ينجب لا يصير مسئولاً عن حياته وحده، بل عن كل حياة ترتبت على حياته، كل خطأ نرتكبه، ولو من دون قصد، أو من وراء ضغط، هو جناية بحق مَن لا حول لهم ولا قوة، فما السبيل للخلاص من تلك الورطة الأبدية؟ تلك قصة لها بقية.