هل نحتاج هنرى كيسنجر جديداً فى الشرق الأوسط؟. سؤال يطرح نفسه بسبب ضبابية الموقف الذى تصبغه الحرب والدماء والحاجة إلى سلام يشمل كل الأطراف ويضفى الهدوء على المنطقة التى لا تكاد تلتقط أنفاسها بسبب الحروب التى تدور على أرضها.
منذ ما يزيد قليلاً على 50 عاماً شهدت المنطقة حرب أكتوبر 1973 التى انتصر فيها العرب على الكيان الصهيونى، وقد سارعت أمريكا لإنقاذ الكيان بأن أمدته بأحدث الأسلحة من ترسانتها إلى أرض المعركة مباشرة.
كان اللاعبون الأساسيون على مستوى عالٍ من المهارة والدهاء، وبينما كان الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون غارقاً فى مستنقع فضيحة ووترجيت، انطلق وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومى المتجنس هنرى كيسنجر يمارس هوايته الدبلوماسية وألاعيبه السياسية فى الشرق الأوسط بعد أن اندلعت الحرب بين مصر وسوريا من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى.
ابتكر «كيسنجر» دبلوماسية المكوك من خلال قيامه بجولات متكررة ذهاباً وإياباً بين العواصم المعنية، «موسكو، تل أبيب، القاهرة، دمشق»، وهكذا سافر خلال أيام عشرات المرات لكى تتوقف الحرب وينقذ إسرائيل.
كان «كيسنجر» حريصاً على السلام بالفعل، وهو الذى يتبنى المبدأ الذى رسخه فى بدايات القرن التاسع عشر كل من كليمنس فون ميترنخ، وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية، وكاستلر، وزير خارجية بريطانيا العظمى، فى مواجهة نابليون بونابرت وتمدد فرنسا فى أوروبا.
كان إعجاب «كيسنجر» بتلك الحقبة وما حدث خلالها هو ما جعله يختارها موضوعاً لرسالته للدكتوراه والتى اختار لها عنوان «تاريخ مستعاد» أو مسترد أو تاريخ أعيد بناؤه. حيث رتب «ميترنخ وكاستلر» وثالثهما شارل موريس تاليران، وزير خارجية فرنسا الداهية، لأن تعيش أوروبا قرناً كاملاً بلا حروب مدمرة تشمل القارة، كما حدث خلال فترة حكم وسيطرة «نابليون».
كان «كيسنجر» يؤمن بأن الحاضر لا يعيد الماضى ولكن يمكن كسب الخبرة من أحداث التاريخ. ولما حدث ما حدث فى الشرق الأوسط سارع لكى يبنى أسطورته ومجده السياسى والدبلوماسى من خلال جولاته المكوكية.
كان «كيسنجر» يعتقد أنه أذكى الجميع وأنه سيستدرج الآخرين لكى يقروا ويوافقوا على ما يريد، وقد حدث ذلك بنسبة كبيرة، لكن المحصلة النهائية تشير إلى أن الرئيس أنور السادات استطاع توجيه الجميع لما يريد، وبعد أن كسب الحرب كسب السلام واسترد سيناء كاملة.
إنها سطور قصيرة من تاريخ تلك الفترة التى كانت عنواناً للحرب الباردة باتفاق القوتين العظميين أمريكا والاتحاد السوفيتى، وما أذكرها هنا إلا لكى أطرح سؤالى: هل نحتاج إلى «كيسنجر» جديد أو من جديد لكى يحل معضلة الصراع العربى - الإسرائيلى الذى تركه دون حل نهائى؟.
ألا توجد طريقة لكى يتدخل أحدهم ويوجه سير التاريخ إلى وجهة السلام والاستقرار بشكل ممتد وليس فى شكل هدنة؟. ألا يوجد من يستطيع تسيير مفاوضات لتكون غير صفرية ويرتاح الجميع ويعم السلام المنطقة؟.
لقد كان «كيسنجر» صاحب مبدأ أن إحلال السلام أهم من التشبث بمساحات أكبر من الأراضى أو السيطرة على نقاط استراتيجية أقوى، هو يحقق أهدافه من خلال إقناع الآخر بأن الضرورات مسألة مرغوبة ومن ثم يقوم بترتيبها بحيث تقبلها الأطراف المتصارعة.
من المؤكد أنه لا حروب تدوم، ولا سلام يدوم، ولكن وجود فترات من السلام أطول من فترات الحروب تجعل الحياة تستمر، وهذا ما يجب أن يحدث فى الشرق الأوسط.