لا تغيب عن عقلى أبداً تلك الجملة التى اختارها عبقرى الشعر الراحل أبوالعلاء المعرى لتُكتب على قبره «هذا ما جناه أبى وما جنيت على أحد». أظل أفكر لوقت طويل فى المعنى الذى يحتمل عشرات التفسيرات برأيى، هل يلوم المعرى أباه، أم يبرئ نفسه مما فعل فى الدنيا باعتباره لم يختر أصلاً القدوم إليها، أم كليهما معاً؟ الفكرة بالكامل تدور حول «الذنب».. «ذنب من؟».
ذنوب ارتُكبت بحقنا، وأخرى ارتكبناها، ولا نزال، ذنب مَن ومَن الجانى؟ ومَن أولى بالتدخل أولاً، هم باعتبارهم ضحايا نفاد صبرنا، وضيق آفاقنا، وسرعة حياتنا، أم نحن على طريقة إرشادات الطيران، تلك التى تخبرك أنه فى حال انقطع الأكسجين، عليك أن تضع «ماسك التنفس» لنفسك أولاً، قبل أن تضعه لطفلك، ليس أنانية، ولكن لأنه سيكون بخير طالما أنك بخير!
شاركت أسئلتى وحيرتى فى مكالمة دارت بينى وبين السيدة الجميلة مريم الكرمى، صاحبة المليار مشاهدة لأغنية «فى منزل أنثى السنجاب» التى قامت بتأليفها، تحدثت مع السيدة الصعيدية الطيبة حول الطريقة التى يمكن بها التعامل مع الأطفال دون أن نفقد صوابنا، كانت بالنسبة لى مرجعاً، ليس لأنها مؤلفة أغانى أطفال ناجحة تتقن مخاطبة عقولهم وحسب، ولكن لأنها أم لـ7 أبناء، فضلاً عن كونها شقيقة كبرى وسط 8 إخوة، كانت بمثابة الأم لهم.
فضلاً عن أمومتها التى تفيض على أبناء أشقائها وشقيقاتها، حيث يحبها أطفال العائلة جميعاً، فضلاً عن قدرتها على التحقق بالفعل، فى عالم ليس من السهل أن تتحقق فيه امرأة من الصعيد، تخبر كل الظروف من حولها أنها لن تفعل ما تريد، لكنها فعلت، سألتها بمنتهى الصدق: من أين نأتى بالاحتمال حين ينفد الصبر وتنتهى الطاقة: فأجابتنى بلكنتها الصعيدية المحببة لى: «نسأل نفسنا.. هما ذنبهم إيه؟ مالهمش ذنب هما، قصاد شعورك بالمسئولية تجاه عملك، ومهام البيت، وبقية الحاجات المطلوبة، حتى لو كانت لأجلهم، الطفل ليه حق عندك، محتاج وقت ومحتاج حب، ومحتاج بال طويل، الأولوية عنده للحب، مش للأكل، ولا لأى حاجة تانية، حرام تفكرى فى أكله قبل قلبه.. فترة الاحتياج الشديد للأم بتكون فى الست سنوات الأولى، من بعدها يكبر سنة ورا سنة مش بيحتاج، لو الفترة دى فاتت بطريقة غلط، هيعيش حياته، بجرح كبير، ومش هيعوز منك حاجة تانية».
ترى «الكرمى» أن مهمة الأم الأولى هى الطفل، ثم أى شىء آخر، نصحتنى: «الأولوية الحقيقية إننا نقعد مع أولادنا فى اليوم ساعة أو اتنين، نحضنهم، نبوسهم، نلعب معاهم، ونضحك من قلبنا، بعدها لو انشغلنا هيقدّروا، هيكون عندهم مخزون حب وذكريات حلوة، الفكرة مش فى عدم وجود وقت، ولكن فى ترتيب الأولويات، هل هم الأولوية أم لا؟».
بدت لى كلماتها كالبلسم، ففى أحيان كثيرة، وسط زحام الحياة، وكثرة الشكوى منا وإلينا، نحتاج لمن يذكّرنا بأنهم مجرد أطفال، من يخبرنا أن المسألة تحتاج إلى وقت سوف نتطلع بعد انقضائه إلى كل تلك السنوات التى نهدرها الآن.
يقولون إن كل الإساءات التى نتلقاها فى طفولتنا تعود لتخرج فى كبرنا بالطريقة ذاتها فيمن هم أضعف منا على طريقة الدائرة، وأن الحل الوحيد لكسر تلك الدائرة هو الكف، الآن وفوراً، عن كل الممارسات السيئة التى حدثت بحقنا، وعدنا لنرتكبها بوعى أو بدون، سواء تطلّب هذا انتباهاً وقوة إرادة فقط، أو امتد الأمر للحصول على مساعدة نفسية أو اجتماعية من المحيطين فى الدائرة، المهم أن تتوقف الذنوب التى تُرتكب بحقنا، ونرتكبها، الآن وفوراً، وإلا صرنا نحن المسئولين عن «الذنب» و«الجناية».