فى مذكرات عبدالرحمن الجيار، مدير مكتب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى الخمسينات من القرن الماضى، أورد واقعة طريفة عن حكاية فلاح سيدنا الحسين والرئيس عبدالناصر، قائلاً: كانت الدنيا ضاقت به ذرعاً، فقصد ضريح سيدنا الحسين؛ يطلب منه المدد، وما إن وصل إلى هناك حتى صلى ركعتين وزار المقام ثم وضع خطاباً فى صندوق النذور، وكان الرئيس عبدالناصر قد أمر بفتح صناديق النذور حول أضرحة الأولياء لمعرفة ما يرسله الشعب من طلبات وما يحلمون به أو يشكون منه للأولياء، وكانت رسالة الرجل البسيط للحسين أنه يحتاج 200 جنيه من أجل جهاز البنت، وكتب اسمه وعنوانه فى الرسالة.
وبمجرد أن قرأ الرئيس الراحل الرسالة، أصدر أوامره على الفور بإرسال مائة جنيه للفلاح المصرى البسيط صاحب الرسالة، من ميزانية الرئاسة. وبالفعل، قام أحد موظفى الرئاسة بتوصيل المبلغ إلى الرجل، مبلغاً إياه بأن هذا المبلغ من الرئيس جمال عبدالناصر، رداً على رسالته للحسين.
وبعد أسبوع، ورد خطاب آخر للرئيس عبدالناصر من الخطابات التى يكتبها المصريون ويودعونها فى صناديق النذور، وكان الخطاب من نفس الرجل، يخبر الحسين فيه أن ما وصله 100 جنيه فقط، وأن عبدالناصر أخذ الـ100 جنيه الأخرى لنفسه. ومن ثم، طلب الفلاح المصرى من سيدنا الحسين أن يرسل له باقى المبلغ مع شخص آخر غير عبدالناصر.
وإزاء ذلك، لم يتمالك الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر نفسه من الضحك، وأمر له بمائة جنيه أخرى. وعلى حد قول مدير مكتبه آنذاك، عبدالرحمن الجيار، كانت هذه هى المرة الوحيدة التى سمع فيها عبدالناصر يضحك بصوت عالٍ.
ومن ناحية أخرى، وفى الإطار ذاته، تجدر الإشارة إلى إحدى العبارات المشهورة والمتداولة على ألسنة العامة من المصريين، دون أن يعرفوا أصلها، وهى عبارة «يا خراشى». والواقع أن هذا النداء الشهير قيل أول مرة من الناس فى مصر قبل ألف عام، ويعود أصله إلى أن أول شيخ للأزهر كان يسمى «محمد الخراشى»، وكان شيخاً ينصر صاحب الحق ولو كان ضعيفاً، ولا يخاف الظالم مهما كانت قوته. فكانت كلمة «خراشى» هى النداء إلى الشيخ الخراشى كى ينصرهم على الظلم الواقع عليهم. فإذا ظلمهم حاكم البلاد قالوا «يا خراشى»، وإذا اختلف الناس قالوا «يا خراشى»، حتى عندما تصيبهم مصيبة يقولون «يا خراشى».
وما زال بعض المصريين حتى يومنا هذا يرددون بعض العبارات، مثل «مدد يا رسول الله»، أو «مدد يا حسين». وقد أثار البعض التساؤل حول مدى جواز التلفظ بهذه العبارات، وما إذا كان هناك إثم على مَن يقول ذلك. ورداً على هذا التساؤل، أجابت دار الإفتاء المصرية -فى أكثر من فتوى صادرة عنها- بأن «طلب المدد من الأنبياء والأولياء والصالحين أحياء ومنتقلين من الأمور المشروعة التى جرى عليها عمل المسلمين، وذلك محمول على كونهم سبباً -كالاستعانة بالطبيب على الشفاء من مرض- لا على جهة التأثير والخلق، فالأصل حمل أقوال المسلمين وأفعالهم على السلامة، حيث إن هناك فارقاً بين اعتقاد كون الشىء سبباً وبين اعتقاده خالقاً ومؤثراً بنفسه، فإنه لا مؤثر فى الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، والأسباب لا تثمر المسبَّبات بنفسها وإنما بخلق الله لها. ولا إثم على من يقول ذلك، فقد ورد من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ما يدل على جواز طلب العون والمدد من المخلوقين على جهة السببية والاكتساب، وهذا ما عليه الصحابة والتابعون سلفاً وخلفاً، وما عليه علماء الأزهر الشريف ومشايخه بصفاء فهمه ووسطيته واعتدال منهجه عبر القرون» (راجع على سبيل المثال: الفتوى رقم 5649، 13 أغسطس 2018م، المفتى فضيلة الأستاذ الدكتور شوقى إبراهيم علام، فتوى بعنوان «حكم قول مدد يا فلان»).
وقبل التساؤل حول مدى جواز التلفظ بمثل هذه العبارات من الناحية الشرعية، فإن التساؤل أوجب حول سبب انتشار هذه الظاهرة فى مجتمعاتنا، وما إذا كانت مثل هذه العبارات تتردد على ألسنة شعوب ومجتمعات أخرى. وبعبارة أخرى، فإن التساؤل يثور حول السبب وراء عدم لجوء بعض الأفراد إلى السلطات العامة بشكاواهم وآمالهم وآلامهم بدلاً من اللجوء إلى الأولياء الصالحين.
والواقع أن المشرع الدستورى المصرى يكفل «لكل فرد حق مخاطبة السلطات العامة كتابة وبتوقيعه، ولا تكون مخاطبتها باسم الجماعات إلا للأشخاص الاعتبارية» (المادة 85 من الدستور الحالى الصادر سنة 2014م). وقد ورد النص على الحكم ذاته فى المادة الثالثة والستين من الدستور المصرى الملغى لعام 1971م، بنصها على أن «لكل فرد حق مخاطبة السلطات العامة كتابة وبتوقيعه، ولا تكون مخاطبة السلطات العامة باسم الجماعات إلا للهيئات النظامية والأشخاص الاعتبارية». كذلك، تردد النص على الحكم ذاته فى الدساتير المصرية المتعاقبة، بدءاً من دستور 1923م، حيث تنص المادة الثانية والعشرون منه على أن «للأفراد المصريين أن يخاطبوا السلطات العامة فيما يعرض لهم من الشئون وذلك بكتابات موقع عليها بأسمائهم. أما مخاطبة السلطات باسم المجاميع فلا تكون إلا للهيئات النظامية والأشخاص المعنوية».
والأهم من كفالة حق المواطنين فى مخاطبة السلطات العامة هو أن تيسر سبل الشكوى وكفالة التعامل بجدية معها وكفالة حق المواطن فى الحصول على رد مكتوب على شكواه خلال مدة معقولة. ولن يتأتى كل ذلك إلا إذا تم النظر إلى الشكاوى باعتبارها فرصة للوقوف على أوجه الخلل واستغلالها بالتالى فى تحسين جودة الخدمات الحكومية.
لقد أنشأت بعض الجهات الحكومية صناديق للشكاوى والمقترحات، طالبة من الجمهور وضع شكاواهم ومقترحاتهم بها. وقامت بعض الجهات بتخصيص خط ساخن للرد على استفسارات الجمهور وتلقى اتصالاتهم. ولكن، وعلى أرض الواقع، يحدث غالباً ألا يجد المتصل متحدثاً يرد عليه. وإذا تحدث المتعامل مع الموظف المسئول عن استقبال الاتصالات على الخط الساخن، فلا أعتقد أن المتصل يتلقى رداً مقبولاً منه على شكواه.
إن وضع سياسة واضحة للشكاوى والمقترحات، مع تقرير التزام الجهات الحكومية بها، هو السبيل الوحيد لكفالة ثقة الأفراد فى هذه الجهات، واختيارهم بالتالى اللجوء إلى صناديق الشكاوى بدلاً من صناديق النذور أو طلب المدد من أولياء الله الصالحين.