ضوابط وأخلاقيات "حق الدفاع".. بداية الطريق لاكتمال منظومة العدالة
تواصل «الوطن» عرضها للدراسة الموضوعية الحاسمة فى شروط قبول القاضى واستمراره، التى أعدها المستشار الدكتور خيرى الكباش الرئيس بمحكمة الاستئناف.
ويستعرض «الكباش» فى الباب الثانى من الدراسة ضوابط وأخلاقيات حق الدفاع أمام القضاء الجنائى ومظاهر الارتقاء بمهنة المحاماة، حيث أكد فى مقدمته لهذا الباب، أنه إذا كان للحكم الجنائى أخلاقيات يجب أن يتحلى بها، فإن لحق الدفاع أمام القضاء الجنائى ضوابط وأخلاقيات يجب أن يلتزمها حتى تكتمل منظومة العدالة وتُحاط أطرافها بسياج طاهر ملىء بأسمى الخصال فى التجرد والحياد والحكمة والعلم والتواضع ومُزيَّن بأفضل سمات البلاغة فى التعبير عن طلبات المجنى عليه أو المضرور من الجريمة وعن دفاع المتهم ودفوعه.
وذكرت الدراسة أنه إذا كانت حماية الحق فى الدفاع من أهم ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة بالنسبة للإنسان المتهم، فإنها وفى ذات الوقت التزام على عاتق المدافع عن المتهم الحاضر معه دائماً فى جلسات المحاكمة، يجب عليه أن يؤديه بالأمانة والصدق متحلياً فى سرد دفوعه ودفاعه شفاهةً وكتابةً بأسمى آيات العفة فى أقواله والبلاغة فى تعبيراته سواء فى مبانيها أو معانيها لتصل إلى عقول قضاته فتوقظها وإلى قلوبهم فتجذبها حتى يحدث التوافق بين الدفاع والمنصة المُنصتة.
ومن هنا يستمد حق الدفاع ضوابطه وأخلاقياته، فيلزم أن يكون الدفاع مُستمداً من ذات الواقعة أو الوقائع المنسوبة إلى المتهم فينصب على أدلة الإثبات فيها لينفيها أو ليشكك المحكمة فى سلامتها أو فى مصدرها دون تجريح فى مصدر هذه الأدلة من الأشخاص.
ولا يكون الدفاع مجرد أقوال ذات طابع إنشائى بحت منبت الصلة عن الواقع، بل يجب أن يكون مبناه التأصيل العلمى لدحض الأدلة الفنية، والتأصيل القانونى وفقاً لما استقر عليه القضاء أو تناوله الفقه المختص بالشرح والتأهيل مع توثيق هذه الآراء بمصادرها المباشرة وإرفاق صورة منها كلما كان ذلك ممكناً.
ولا يمنع ذلك من اللجوء إلى الخبير الاستشارى ليفند فى تقرير علمى موثق ما يصبو إليه الدفاع من الرد على أدلة الإثبات الموجهة إلى موكلة الإنسان المتهم مع تمسك الدفاع بحقه فى مواجهة الخبير الذى حرر التقرير الفنى المُعتبر دليل إثبات ضد موكله بما ورد بتقرير الخبير الاستشارى ليحدث حوار علمى بين الطرفين أمام المحكمة التى تتحول عند اختلاف الخبراء إلى الخبير الأعلى أو ما يُسمى بخبير الخبراء لتحسم النزاع مستمدة ترجيحها من المتفق عليه بين الخبراء فى تقاريرهم المتعددة أمام المحكمة، ثم تختار من المختلف عليه ما هو أقرب معقولية وفقاً لظروف الدعوى وملابساتها وما يتساند مع باقى الأدلة المطروحة عليها نفياً أو إثباتاً.
فإذا أراد الدفاع أن يثبت للمحكمة مثلاً انتفاء صفة الجريمة عن موكله الإنسان المتهم بقوله: «إذا أنصفتنا النيابة العامة ما أتت بنا إلى هنا (أقصد ساحة المحكمة) ولكن منهم من يُعبِّر عن ذلك بقوله: «إذا كان عند النيابة العامة إنصاف ما أتت بنا إلى هنا».
وأوضحت الدراسة أن أخلاقيات حق الدفاع وضوابطه تأبى الترديد النظرى لعبارات التشكيك فى الأدلة دون أن يكون لدى الدفاع ما يؤيد صدق دفاعه وواقعيته، فربما يؤدى ذلك إلى إحاطة كامل الدفاع بظلال كثيفة من الريبة والشك فى سلامته أو واقعيته.[FirstQuote]
كما تأبى أخلاقيات حق الدفاع وضوابطه أن يضع المدافع نفسه موضع التناقض الواضح فى المبدأ الذى يتمسك به ويعتبره أمام المحكمة عندما يتمسك به ويُصر عليه ويُعلى من شأنه عندما يكون حاضراً مع المتهم، فإن حضر فى القضية التالية أو فى يوم آخر مع المدعى بالحق المدنى المضرور من الجريمة أنكر هذا المبدأ فى أقواله ونعته بنعوت تنال من قدره وأهميته فى مجال تحقيق العدالة، لأنه بذلك يكون ساعياً لهدف واحد فى رسالته «كدفاع وهى رسالة مقدسة» ألا وهى تحصيل الأتعاب دون اعتبار للوسيلة، فعليه إن تمسك بمبدأ فى دفاعه عن المتهم ألاّ يقبل وكالته عن مدعٍ بالحق المدنى تُحتم عليه ظروف دعواه وملابساتها أن يتناقض مع مبدئه الذى أعلى من شأنه وبحق عند دفاعه عن متهم من قبل، لأنه لن يجد نفسه صاحب رسالة معاونة للقضاء ومساهماً فى تحقيق العدالة، بل ربما يحوله هذا التناقض والتعارض حال تكراره إلى مجرد قائم على عمل مادى بحت لا ينطوى على رسالة سامية هى رسالة القضاء الواقف.
وذكرت الدراسة أن ضوابط الحق فى الدفاع وأخلاقياته تأبى أن يتحول صاحب هذه الرسالة السامية من مكانه فى القضاء الواقف الذى يصون الحقيقة ويساهم فى إرساء دعائم العدالة الطاهرة إلى عائق يقف حجر عثرة فى طريقها.
ويتحول حق الدفاع إلى عائق لتحقيق العدالة أيضاً إذا ما صار هدفه إطالة أمد التقاضى لغاية غير طاهرة فى نفس الموكل عندما يكون الوقت قاتلاً لخصمه الآخر صاحب الحق، وهو يعلم عنه ذلك فيعمل على التسويف أحياناً، وقد يصل إلى رد القاضى أو الدائرة كاملة أحياناً أخرى وبلا مبرر بُغية إطالة الوقت ومنعاً للفصل فى الدعوى بصورة ناجزة تحت ظلال حجج واهية، وهذا نهج تأباه بشدة ضوابط وأخلاقيات حق الدفاع.
فإذا كان حق الدفاع يُمثِّل عصب المحاكمة العادلة والمنصفة لكونه حقاً مقدساً لا يجوز المساس به، فإن وسائل تحقيقه يجب ألا تقل قداسةً عنه.
واستعرضت الدراسة شرحاً وافياً لاحترام حق الدفاع باعتباره من أهم ضمانات المحاكمة المنصفة والناجزة، حيث أكدت حق المتهم فى الدفاع بالأصالة أو بالوكالة، وفى الاستعانة بمحام.
واستندت الدراسة إلى نصوص بعض الاتفاقيات الدولية والدستور المصرى، التى أكدت حق الدفاع، وقالت إن دستور مصر السابق الصادر فى 1971 نص فى المادة 69 منه على: «أن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول، ويكفل القانون لغير القادرين مالياً وسائل الالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم»
كما نص الدستور على أن كل متهم فى جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه، وأن المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
وتابعت الدراسة: للمتهم الحق فى أن يدافع عن نفسه بنفسه أو عن طريق الاستعانة بمحام يختاره للدفاع عنه فإذا لم يكن له محام أخطر بحقه فى ذلك، وفى حالة اتهامه فى جناية لم يستعن بمحام على نفقته الخاصة وبناء على اختياره، فعند إحالته إلى محكمة الجنايات يندب له المحامى العام من تلقاء نفسه محامياً للدفاع عنه فالاستعانة بمحام جوازية فى الجنح والمخالفات وجوبية فى الجنايات.
ولوكلاء الخصوم كموكليهم الحق فى حضور جميع مراحل المحاكمة وتمكينهم من الاطلاع على ما تم من تحقيقات ومناقشات فى غيابهم ولهم ولموكليهم الاطلاع على جميع أوراق الدعوى تطبيقاً للمادة 236 إجراءات لتمكينهم من الدفاع.
ولا شك فى أن استعانة المتهم بمحام، ولو كان هو نفسه محامياً يسهل مهمة الدفاع عنه وتحقيق العدالة بوصول المحكمة إلى حكم عادل بالبراءة أو بالإدانة.
وتنص الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية على وجوب التزويد بمحام عند توافر شرطين:
الأول: ألا تكون موارد المتهم كافية لكى يستعين بمحام على نفقته.
الثانى: أن تستلزم مصلحة العدالة له المساعدة القانونية. ويجب أن تكون المساعدة القانونية فعلية لا صورية، فلا يكفى ندب أو تعيين محامٍ للمتهم فإذا مرض أو انسحب أو رفض الندب أو مات لا يحل محله آخر وذلك لأن الهدف من ندب المحامى أو تعيينه هو المساعدة القانونية بمعنى وجوب حضوره طوال المحاكمة وجلساتها، فإذا لم يتم سماع الشهود ومرافعة النيابة والخصوم فى وجوده أو فى وجود من يقوم مقامه كان هناك إخلال بحق المتهم فى دفاعه مما يعيب.[SecondQuote]
وقد نصت المادة 64 من قانون المحاماة المصرى لسنة 1983 على أن «على المحامى تقديم المساعدات القضائية للمواطنين غير القادرين وغيرهم فى الحالات التى ينص عليها هذا القانون، وعليه أن يؤدى واجبه عمن ندب للدفاع عنه بنفس العناية التى يبذلها إذا كان موكلاً، ولا يجوز للمحامى المنتدب للدفاع أن يتنحى عن مواصلة الدفاع إلا بعد استئذان المحكمة التى يتولى الدفاع أمامها، وعليه أن يستمر فى الحضور حتى تقبل تنحيه وتعيين غيره».
ويجب أن يكون المحامى المندوب للمرافعة أمام محكمة الجنايات مقبولاً للمرافعة أمام محاكم الاستئناف أو المحاكم الابتدائية على الأقل تطبيقاً للمادة 377 إجراءات، فإن كان محامياً تحت التمرين أخل ذلك بحق المتهم فى الدفاع.
وللمحامى المندوب أن يطلب تقدير أتعاب له على الخزانة العامة لو كان المتهم فقيراً وتقدر المحكمة هذه الأتعاب فى حكمها بالدعوى ولا يجوز الطعن فى هذا التقدير، ويدخل فى تقدير الأتعاب أهمية الدعوى، والجهد الذى بذله المحامى والنتيجة التى حققها وملاءمة المتهم، وأقدمية درجة قيد المحامى ولا يجوز بصفة عامة للمحامى أن يمثل مصالح متعارضة ويسرى هذا الحَظر على المحامى وشركائه، وكل من يعمل لديه فى نفس المكتب من المحامين بأى صفة كانت.
كما تطرقت الدراسة إلى الحماية التشريعية والقضائية لحق الدفاع، وفى مقدمتها الحق فى الاستعانة بمحام، ويعد حق المتهم فى الاستعانة بمحام أكثر الحقوق التى يتمتع بها المتهم تأثيراً على الإطلاق، لأنه يتصل بقدراته على الدفاع عن تلك الحقوق الأخرى.
كما استندت الدراسة إلى بعض المبادئ القانونية التى أقرتها المحكمة العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومنها:
- مساعدة المحامى الفعالة: أقرت المحكمة العليا للولايات المتحدة أولاً بأن حق الاستعانة بمحامٍ يتضمن الحق فى مساعدة المحامى الفعالة، وأكدت الأهمية الحيوية لمساعدة المحامى الفعالة والدور الأساسى العام الذى يلعبه المحامى فى النظام الاتهامى.
- الحق فى تمثيل النفس: فى سنة 1975 حكمت المحكمة العليا للولايات المتحدة بأن للمتهم حقاً دستورياً فى أن يقوم بالإجراءات بنفسه وفى ممارسته لهذا الحق فى تمثيل النفس يجب عليه بالضرورة أن ينزل عن الحق فى الاستعانة بمحامٍ. وبناء عليه فإن مفتاح البحث لمحكمة المحاكمة هو تقرير أن النزول قد تم على علم وإدراك. أى يجب أن يكون المتهم على علم بأخطار وأضرار وسلبيات تمثيل نفسه بنفسه لدرجة أنه يجب أن يثبت فى المحضر أنه (يعلم بما يفعل وبأنه اختار ذلك بعيون مفتوحة). أما واقعة أن المتهم لم يدرس القانون واستنتاج محكمة المحاكمة من ذلك أن المحامى سوف يقوم بأداء أفضل من المتهم نفسه تعتبر (غير مرتبطة بتقدير علمه بممارسة حقه فى الدفاع عن نفسه).
- تعيين محامٍ احتياطى على أهبة الاستعداد: يبدو أن القاعدة هى أنه عندما يختار المتهم أن يقوم بالإجراءات بنفسه لنفسه ولكن مع النصيحة أو «المساعدة الفنية» لمحامٍ منتظر على أهبة الاستعداد معين بواسطة المحكمة، فإن المتهم لا يكون قد نزل عن الحق فى المحامى، وبالتالى لا يكون له الحق فى التحذيرات الخاصة بالنزول عن الاستعانة بمحامٍ التى تحويها معظم قوانين الولايات المتحدة. وما دام المتهم لم ينزل عن الاستعانة بمحامٍ فإنه يبدو أن هذا يستتبع أن يظل للمتهم الحق فى المساعدة الفعالة من محامٍ.
- تنازع المصالح: يتضمن الحق الدستورى فى الحصول على المساعدة الفعالة لمحامٍ أن يكون للمتهم الحق فى الولاء الذى لا يتجزأ من جانب محاميه. فإذا تأثرت قرارات المحامى بواسطة أشخاص أو التزامات غير مرتبطة بالموكل فإن المتهم عندئذ لا يكون قد حصل على كامل مزية الحق فى الاستعانة بمحامٍ والنظام الاتهامى للإجراءات. وأكثر المواقف شيوعاً هو ذلك الذى يحدث عندما يقوم محامٍ واحد بتمثيل متهمين مشتركين فى نفس الجريمة فى نفس الوقت.
(أ) تمثيل متهمين مشتركين بواسطة محامٍ واحد:
كثير من المحامين لا يمثلون متهمين مشتركين فى جريمة واحدة، إذ تكون احتمالات التنازع غالبة. ولما كان التنازع لا يظهر فى بداية التمثيل لذلك يكون هناك إغراء بالسير مع أكثر من موكل متهم بأفعال ناشئة عن نفس المشروع الإجرامى. والأكثر حدوثاً هو أن التنازع يتطور كلما تقدمت الإجراءات فى القضية، فعرض المساومة قد يكون بالنسبة لمتهم يعتمد على شهادته ضد متهم آخر وفى المحاكمة المشتركة فإن دفاع أحد المتهمين قد لا يكون متفقاً مع الدفاع عن متهم آخر. فيجوز أن يرى أحدهما الإدلاء بشهادته بينما يظل الآخر صامتاً.
وأكدت الدراسة أن لكل متهم حقاً مطلقاً فى أن يكون حاضراً فى قاعة المحكمة فى كل مراحل المحاكمة، وهو الحق المطبق أيضاً فى الولايات من خلال قاعدة وجوب سلامة الإجراءات القانونية.[ThirdQuote]
ويجب ملاحظة أن هذا الحق المطلق مقصور على مرحلة المحاكمة وحدها. أى ليس للمتهم الحق المطلق فى أن يكون حاضراً فى كل جلسات مرحلة السماع السابقة على المحاكمة. ولا يمتد هذا الحق أيضاً إلى جلسات السماع السابقة على المحاكمة التى تعقد فى مكتب القاضى. ولا بالنسبة لطلبات ما بعد المحاكمة لأجل محاكمة جديدة أو إلى جلسة توجيه التعليمات للمحلفين ولا بالنسبة للقيام بزيارات مسرح الجريمة وما شاكل ذلك. ولكن الحق يمتد إلى اختيار هيئة المحلفين وأى اتصالات بين القاضى وهيئة المحلفين، وجلسة تفريد العقوبة. وبالإضافة إلى ذلك حكمت المحاكم بأنه إذا كان المتهم قد تغيب لفترة قصيرة عن الإجراءات ولم يحصل أى شىء «ضار» أثناء هذا التغيب. فعندئذ يكون التغيب القصير غير ضار ولا يكون بالتالى مخالفاً لحقوق المتهم الدستورية ما لم يكن هذا الغياب «له علاقة جوهرية معقولة» بفرصته الكاملة فى الدفاع عن نفسه.
ويمتد هذا الحق إلى ما وراء الحضور المادى بحيث يشمل أيضاً الحق فى فهم الإجراءات. ولقد فسر هذا ليعنى أن المحكمة يجب أن تعين مترجماً متى كان المتهم لا يتكلم أو يفهم اللغة الإنجليزية.
كما أوضحت الدراسة أن من حق المحكمة اتخاذ إجراءات ضد المتهم المشاغب، وفى هذا الشأن أرست المحكمة العليا ثلاثة خيارات لقضاء المحاكمة فى مثل هذه المواقف:
1- أن يأمروا بقيد المتهم وتكميمه.
2- أن يعلنوه للمحاكمة عن جريمة ازدراء المحكمة.
3- أن يأمروا بأخذ المتهم خارج قاعة المحكمة إلى أن يبدى استعداده لمراعاة النظام فى قاعة المحكمة، وقد أقرت المحكمة أن «منظر القيود والكمامات قد يكون له تأثير ومغزى على شعور هيئة المحلفين بالنسبة للمتهم»، وبذلك عبرت ضمنياً عن تفضيلها إخراج المتهم من قاعة المحكمة.
وقد قيدت المحاكم الفيدرالية ومحاكم الولايات مسألة إلزام المتهم بارتداء ملابس السجن فى قاعة المحكمة وحكمت معظم هذه المحاكم بأن المتهم له الحق فى أن يقف فى المحاكمة «بالمنظر، والكرامة، واحترام النفس التى تليق بإنسان حر وبرىء». وقد حكمت المحكمة العليا للولايات المتحدة بأن هناك مخالفة لحقوق المتهم فى وجوب سلامة الإجراءات القانونية إذا أرغم على أن يحاكم وهو مرتدٍ لملابس السجن. ومع ذلك لا يكون ثمة خطأ عندما تكون ملابس السجن قد ارتديت باختيار وإرادة المتهم ولم يقم بأى اعتراض أثناء المحاكمة. ومشابهاً لذلك حكمت إحدى محاكم الولايات بأن المتهم لم يجبر على ارتداء ملابس السجن ولكنه فعل ذلك لغرض صريح هو كسب عطف هيئة المحلفين، ولم يحكم بإنكار المحاكمة العادلة فى قضية أخرى مشابهة عندما شهد المتهم مؤخراً بأنه مودع فى أحد السجون.
ولم يؤد أيضاً استخدام القيود لتقييد المتهم فى المحاكمة. وعادة تستخدم هذه القيود ليس فقط عندما يكون المتهم مشاغباً ولكنها تستخدم أيضاً بالنسبة للمتهم المحبوس وقت مغادرته السجن إلى المحكمة وليس هناك مبرر لوضع الأغلال فى يد المتهم فى غرفة المحكمة ما لم يكن هناك سبب يحمل على الاعتقاد بأنه قد يحاول الهرب أو أنه يسبب تهديداً لسلامة وأمن الناس فى قاعة المحكمة. وإذا رأت هيئة المحلفين المتهم مكبلاً بالقيود فقد ينشأ عن ذلك بعض الضرر، ولكن إذا كان المنظر فى اليوم الأول فقط لاختيار هيئة المحلفين ولم يعترض عليه بواسطة محامى الدفاع، فعندئذ لا يكون ثمة خطأ.
وقالت الدراسة من الثابت أنه يجوز اتخاذ إجراءات المحاكمة مع ضمانات معينة فى حالة غياب المتهم بإرادته. وفى إحدى القضايا لم يحضر المتهم فى المحكمة بعد فترة توقف خلال المحاكمة ولقد حكمت المحكمة العليا بأن المتهم الذى يحضر أثناء مراحل ما قبل المحاكمة حتى بدء المحاكمة ثم يغيب بإرادته فإن ذلك يعتبر نزولاً من جانبه عن الحق المطلق فى الحضور ويجوز للمحاكمة أن تستمر فى غيبته. وبدء اختيار هيئة المحلفين عن طريق بدء العملية الأولية للتحقيق من أهلية كل محلف يعتبر بدءاً للمحاكمة بالنسبة للمحاكمة عن طريق المحلفين. وتصبح المسألة أكثر صعوبة عندما يغيب المتهم بإرادته فى وقت معين قبل المحاكمة. والبحث الدستورى يدور حول ما إذا كان المتهم عالماً بأنه يجوز محاكمته غيابياً فإذا لم يكن عالماً بذلك فإنه يمكن الاحتجاج بأنه لم يكن عالماً بالنزول عن حقه فى أن يكون حاضراً فى المحاكمة أو مريداً إياه وفى مواجهة هذه المسألة سن بعض مشرعى الولايات نصوصاً تكفل إحاطة المتهمين علماً بالتزاماتهم فى الحضور للمحاكمة،
كما أكدت الدراسة على ضرورة الارتقاء بمهنة المحاماة، وذكرت أنه تواضع الناس من قديم على أن البلاغة صفة لازمة لمن شاء المرافعة أمام القضاء، ممثلاً للاتهام كان أو محلفاً، وأن على كليهما أن يتمرس على قوة المحاجاة وجدل الخصام ومنطق الإقناع؛ فالحجة السائقة إن احتواها حديث سقيم ضاعت قوتها وتبددت قيمتها، فإن ناصرها رائع البيان، وصاغها فصيح اللسان انقلبت سحراً وغدت دليلاً مفيداً.
فلا شك أن لغة المرافعة لغة حديثة وليست لغة كتابة، وهى لهذا الاعتبار تتطلب من المترافع أن يشد المستمع إليه بلسانه وصوته وإشاراته وحركته وسكونه وكياسته ومظنته وجرأته وشجاعته، وأن ينأى بنفسه عن التردد أو التلعثم أو التوقف حتى لا يبدو مضطرباً فى فكرته مختلاً فى حديثه. كذلك عليه أن يفطن إلى الدعوة فى مراحل سيرتها وأن يتتبعها فى ملتوياتها فيدقق فى سرعتها ويبتكر فى ثقة ويرتجل فى قوة، «على أن اعتبار لغة المرافعة لغة حديث لا يعنى بحال أن تتكلف فترهق الألفاظ، فإن جمال العبارة فى بساطتها ما دامت تؤدى المعنى المطلوب، فالمهم هو أن يكون الكلام ثوباً للمعانى المقصودة لا قصيراً ينكرها وتنكره، ولا طويلاً يتعثر فيها وتتعثر فيه».
إن احترام قواعد النحو والصرف أمر لازم للسان المترافع أمام القضاء. فالحديث وفق هذه القواعد يمكن أن يتحقق به الاقتناع لما يكتسبه من موسيقى وخفة وسرعة نفاذ، وذلك على خلاف الحديث بأسلوب غير سليم إذ يبدو -لما فيه من عوج لغوى- حديثاً مختلاً مضطرباً. على أن هذا لا يعنى أن نطرح اللغة العامة ظهرياً باستبعادها كلية من لغة المرافعات، فهى تلائم التعبير عن دعاية ساخرة تخفف من إجهاد الجلسات الطويلة وما قد يعتريها من ملل، واستخدامها فى هذا الغرض لا يكون إلا لفترة موقوتة بحيث لا تطغى على الحديث بالفصحى».
«وكذلك فإن للأحكام لغتها التى تتخذ من الوقار والسمو والهدوء طابعاً، ومن حسن اختيار اللفظ ودقة الأداء، والنأى عن التصنع أو التزيد أسلوباً ولئن أذن للاتهام أن يقسو فى مرافعته، للدفاع أن يستدر الرحمة، فإن القاضى -على العكس منهما- يقيس ألفاظه ومعانيه، فلا يجنح إلى العنف ولا ينقاد لجموح العاطفة، حتى يأتى حكمه عنواناً كاملاً للحقيقة، التى هى صلب الحياة وغيتها المترجاة».