يكاد البحث فى شئون الحركات الإسلامية ينتحر فى مصر بعد عزوف معظم الباحثين الجادين عنه إلى الصحافة والقنوات الفضائية.. فهى أكثر ربحا وطلبا وأقل متاعب.. فمصر لا تكاد تهتم بالباحث المدقق، ومعظم الإسلاميين يعادون الباحثين فى شأن الحركات الإسلامية.. ويعتبرونه عدوا وخصما لهم.. لأنه فى العادة ينقدها أو على الأقل يبحث فى أصول وجذور القضايا ولا يرضى بتسطيحها ولا تغليفها بغلاف جميل يطمس إشكالياتها وعثراتها.. وقد يعتبره بعض عوام المتدينين معاديا للمشروع الإسلامى دون أن يفرقوا بين المشروع البشرى غير المعصوم والنبع الربانى المعصوم.
فالباحث يعانى الويلات فهو لا يجد مركزا بحثيا علميا مصريا أو عربيا مستقلا وغير «مؤدلج» بطريقة مع أو ضد، وليست له أى تحيزات فكرية أو سياسية سابقة.
كما يعانى الباحث الصادق من أزمة تمويل أبحاثه مع أزمة «الأدلجة»، فهو لا يجد عادة من يتبناه ويدعم أبحاثه وينشرها.. وهو إن كان «مع» فقد مصداقيته وحياديته.. وإن كان «ضد» فقدها أيضا، مع حرب ضروس قد تطال سمعته ودينه ورزقه.
لقد ابتلى هذا الميدان بالكثير ممن لا يعرفون أبجديات العمل البحثى علماً رصيناً دقيقاً له قواعده وأصوله.
فضلا عن عدم معرفتهم بأبجديات التيار الإسلامى العريض ونشأته وتاريخه والخطوط الفاصلة بين جماعاته ودعاته وروافده المختلفة.
لقد حدث خلط خطير لدينا بين مفهوم الصحفى والباحث فى شئون الحركات الإسلامية.. فالأول يهتم بالخبر اليومى ويقدمه على غيره، مع اهتمامه بالعموميات والقشور التى تنشر بضاعته.
أما الباحث فيهتم بفكر الحركات ومكنون الشخصيات التى قادتها، وكيف كانت مسيرة تكوينها الإنسانى والفكرى والنفسى.. فضلا عن كل الزوايا الإنسانية والاقتصادية والسياسية والتربوية للحركة.. فضلا عن جوهر المشاكل والخلافات والتوافقات والتباينات مع الآخرين من الإسلاميين وغيرهم، والمراحل التى مرت بها.
الباحث يهتم بما تحت السطح.. والصحفى يهتم بما يطفو فوقه.. ونحن جميعا نحب «زبد البحر».. ولا صبر لنا لسبر أغوار المحيط والقاع.. وهذه عادة مصرية أصيلة تتمثل فى نظريتى «التخشينة» و«النواية التى تسند الزير».
كما يعانى الباحث «الأمرّين والويلات».. وهو يريد أن يستخرج تاريخ الحركات الإسلامية بدقة أو تاريخ أى داعية أو قائد إسلامى.. حيث تعتبر الحركة الإسلامية أن أسرارها هى قدس الأقداس التى لا تخرج لأحد.. حتى لو مضى عليها أكثر من خمسين عاما.
ويلقى أى باحث فى الحركة الإسلامية عنتاً فى تلقى إجابات دقيقة عن أسئلته التى تذكر دوما الدعاة وقادة التيار الإسلامى بأسئلة النيابة والمباحث.
وهناك شك دائم فى هؤلاء الباحثين من القادة والدعاة.. فما زالت الوساوس الأمنية تطاردهم وكأنهم لم يصلوا بعد إلى الحكم أو يقودوا البلاد ويديروا دفتها.
إن الخلفية الأمنية ونظرية المؤامرة ما زالتا تعششان فى ذهنية الكثيرين وتحرمان البحث العلمى الرصين والدقيق من التاريخ الدقيق والأمين للحركة الإسلامية.
وقد قال لى أكثر من باحث مصرى فى شئون الحركات الإسلامية إنهم يحتاجون دوما إلى توثيق من عدة قيادات من أى حركة لمجرد الحديث مع واحد منهم، وبعد القبول والسفر والبهدلة ترفض الأسئلة برمتها.
أما المراكز البحثية التى تقيمها الحركات الإسلامية فهى فى الحقيقة لا تهتم بالبحث المجرد الذى يذكر الصواب والخطأ والحق والباطل.. أو يناقش القرارات السابقة أو الحالية علميا.. ولكنها تهتم فقط بتسويق فكر الحركة للآخرين ولا تعطى أية أهمية لترشيده أو نقده أو تقويمه وتصويبه.. كما أن معظم أبحاثها تكون غير منشورة خارج الحركة.. كما أن بعض الحركات الإسلامية ترى أن نقد تاريخها أو حاضرها يشوه المشروع الإسلامى أو ينتقص منه أو يعطى الآخرين فرصة لضربه.
وهذا قد يحدث فعلا، وهو من سلبيات النقد.. ولكن عليها أيضاً أن تنظر إلى إيجابيات كتابة ودراسة تاريخ الحركات الإسلامية دون تزييف أو مونتاج مع نقد الخطأ وتثمين الصواب.. ما سيعطى للأجيال الجديدة من الإسلاميين فرصة متجددة للتصويب والمعالجة والتطوير وعدم تكرار الأخطاء.
وللحديث بقية إن شاء الله