لا يوجد ثمة تعارض ما بين انحياز الإدارة الأمريكية السابقة لمشروع «الإسلام السياسى»، كونه هو المؤهل الوحيد لقيادة الدول العربية بعد ما سمى بـ«الربيع العربى»، وبين رفع الاستخبارات المركزية الأمريكية الأخير لقيود السرية عن وثائق يعود تاريخها إلى العام 1986، تحمل عنوان «بناء قواعد الدعم»، فالحزمة الأخيرة أعدها خبراء استخباراتيون أمريكيون قدمت إلى المستوى القيادى لـ(CIA) فى حينه، ويتصور أنها ظلت حاضرة للاطلاع عليها والوقوف على محتواها من قبل صانع القرار الأمريكى، منذ هذا التاريخ وحتى الآن.
نفى التناقض هنا، بين مطالعة دائرة الحكم الأمريكية لما وصلوا إليه استخباراتياً، وهو ما تم بدرجة عالية من السرية بواسطة خبرائهم، وبين انحيازات أتت لاحقاً بعد توالى فصول انغماسهم فى شأن المنطقة، يعكس بجلاء أن قرار «الانحياز» جرى اتخاذه باعتباره الأجدر بتحقيق مصالحهم، فى الوقت الذى ظلت فيه أصوات أخرى وشخصيات بعينها حاضرة طوال الوقت، تحمل وجهة النظر الأخرى، باعتبار ذلك مهدداً للمصالح وللمنطقة على السواء، الأهم أن هذا الحضور لم يكن بعيداً فى أى وقت عن دوائر صنع القرار السياسى، أو التقدير الاستخباراتى.
بالعودة إلى «بناء قواعد الدعم»، قد يكون اللافت بداية هو تاريخها المثبت فى العام 1986، والوثائق ترصد عدد (30٫000 شخص) ينتمون لجماعة الإخوان، محددة بأنهم موزعون على (24 جماعة متطرفة)، يملكون خلفيات أيديولوجية مختلفة، لكن يجمعهم انطلاقهم من مصدر فكرى واحد هو منهج «سيد قطب»، الوثائق تحدد أن غالبيتهم تورطوا فى ارتكاب أعمال إرهابية فى مصر وخارجها، وتحذر من تنامى نفوذهم وخطرهم.
دلالة ذكر توزعهم على 24 جماعة، مع يقين ارتكاب بعضهم لعمليات إرهابية، أظنه هنا يضع «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد» فى ذات السلة التى قام بتقديرها رقمياً على النحو المذكور، لكن هذا يجعل الـ30 ألفاً رقماً خجولاً وقاصراً عما كانت مصر تتعرض له حينئذ، من إرهاب حقبة الثمانينات وما بعدها، الإشارة الأجدر هنا أن الباحثين الاستخباراتيين لم يجدوا ثمة فوارق واقعية، ما بين الإخوان وتلك التنظيمات، فضموهم تحت العنوان الأشمل وهو الإخوان، واكتفوا بذكر لفظة «توزعهم»، باعتباره عملاً تنظيمياً وتكتيكياً داخلياً لا يلزمه إيضاح لأسماء أخرى، قد تتبدل أو يعتريها الاندماجات والانشقاقات كطبيعة الأداء الحركى لتنظيمات من هذا النوع.
ووفق هذا الغطاء الشامل، تناولت الاستخبارات فى وثائقها، مصادر تمويل الجماعة بما يضمن لها ما أسمته «نشر أفكارها وتنفيذ مخططاتها ضد المجتمع المصرى»، وكما جاء نصياً حددته فى مجموعة من المحاور، أولها أن الإخوان نجحوا فى بناء شبكة واسعة، من خلال تجنيد المعلمين والطلاب والصحفيين وغيرهم من المهنيين ورجال الأعمال، وامتلكوا كلياً أو جزئياً شركات مقاولات، ومصارف، وفنادق فى القاهرة وخارجها، ومصانع لإنتاج المواد البلاستيكية. وأوضحت وثائق الاستخبارات أنها تيقنت من أن الجماعة غطت استثماراتها، من خلال الشراكة مع رجال أعمال من غير المنتمين إليها، حتى لا تلفت أنظار السلطات المصرية وتحمى مصالحها من المصادرة.
أوردت الوثائق فقرة منفردة ومطولة، استندت فيها إلى تقرير للسفارة الأمريكية بالقاهرة صادر حينها وأكده العمل الاستخبارى، تناول اختراق جماعة الإخوان للمؤسسات التعليمية فى الدولة المصرية، لتعتمد على التعليم فى عملية تجنيد الأعضاء الجدد، كاستراتيجية اتبعتها الجماعة فى هذه الفترة، موضحة أن الإخوان استغلوا النظرة القاتمة للشباب المصرى تجاه الظروف الاجتماعية والاقتصادية فى هذه الحقبة، للترويج للنموذج الأصولى الخاص بهم، حيث استهدفت الجماعة شريحة محددة من الطلبة الجامعيين، الذين يسعون للعمل فى مراحل التعليم الابتدائى والثانوى، حتى يكون لهم تأثير على الطلاب، كما أن الجماعة سلطت جهودها على الطلبة الجامعيين، إيماناً منها بأهمية دورهم لخدمة الأهداف الخاصة للجماعة، بعد توليهم مناصب فى المؤسسات الحكومية.
على جانب آخر؛ يحمل العديد من الدلالات المهمة فى التاريخ المبكر 1986 أن جماعة الإخوان حاولت بكل الوسائل عقب «الثورة الإسلامية» فى إيران، الترويج لنفسها فى مصر خلال فترة حكم الرئيس مبارك، على أنها الأصلح للحكم وتتفوق على الجماعات المتطرفة الأخرى، فيما كانت تواصل التغلغل فى صفوف الشباب خصوصاً، وأشارت فى هذا السياق إلى أن تلك الرؤية كان صاحب الدور الرئيسى المؤثر فيها الشيخ يوسف القرضاوى فيما اضطلع به من رسم خطط الجماعة ووضع تكتيكات تحركاتها، حيث سجلت الوثائق تحذيراً من مخططاته، مؤكدة تمتعه بنفوذ هائل على قيادات الجماعة رغم وجوده خارج مصر حينئذ.
لم أقف طويلاً أمام حجم «التطابق» ما بين تلك الوثائق الاستخباراتية الأمريكية، وبين ما كانت أجهزة الأمن المصرى حينها تقوم بتحريره، جهاز «أمن الدولة» على وجه الخصوص وسط معركة إرهاب الثمانينات، فضلاً عن أنه فى فترة لاحقة لهذا التاريخ يمكن مطالعة كتابات جاءت على نفس النسق للباحثين والمتخصصين المصريين، ربما البعض منها بالألفاظ ذاتها وبنفس الإلحاح على خطورة «خطوات» بعينها تنتهجها الجماعة، حيث تبدو تلك الوثائق فعلياً وكأنها لم تأت بجديد على الإطلاق، سوى أنها كتبت بمعرفة خبراء أمريكيين وفى هذا التاريخ من عمر مصر!
الإخوان يشغلون الأمن والدولة المصرية حينها بتنظيمات «السلفية الجهادية» وغيرها، من أجل صرف انتباههما عن التمدد الذى تقوم به، على الساحة السياسية والاجتماعية. ولم تكن الضغوط الأمريكية التى ظل مبارك يتعرض لها طوال فترة حكمه، من أجل إدماج الإخوان فى العملية السياسية، سوى صناعة لدوامة انكفاء تستهلك قدرات الدولة المصرية حينئذ، ومشهد وصول القرضاوى المهيب إلى ميدان التحرير ليعتلى ظهر ثورة يناير 2011، لم يكن سوى مشهد الإتمام لما كانوا يقدمونه ويطمح الشيخ لإخراجه، بهذه الصبغة الإيرانية من أجل تدشين الولاية ذاتها، التى صنعتها مخابرات أخرى فى طهران، وحلمت بها الجماعة، والشيخ طوال سنوات المهجر القطرى... هذا ما وصلنى بعد مطالعة تلك الوثائق الأمريكية، وربما هناك المزيد مما يمكن تناوله لاحقاً بمشيئة الله.