(1) أول مظاهر فشل هوجة 25 يناير شهدها الناس فى تعنت السادة المتحكمين فى دخول الناس لمقر الاعتصام بميدان التحرير، لم أتمكن وآخرون من الدخول إلا بواسطة زميل فى حزب التجمع بالقاهرة قيل إنه المسئول عن جماهير بوابة قصر النيل، وأن البوابة المذكورة هى السبيل الوحيد لمرور من يحملون تزكية التجمع، وأن هذا الزميل هو الوحيد القادر على تمرير أى مشارك حتى لو كان ذلك المشارك من الشخصيات العامة مثل رفعت السعيد أو حتى خالد محيى الدين!
وفى داخل الميدان كان عدد غير قليل من السادة الشباب يستوقف أى شخص ويطلب منه - أو يأمره - بإبراز البطاقة الشخصية مثلما تفعل كمائن الشرطة التى كانت أحد أسباب الثورة.
بعد رحيل مبارك، تحول ميدان التحرير إلى قطعة من الجحيم. الواقفون على الأبواب صاروا مجموعات من البلطجية والصيّع الذين يتداولون كل البذاءات، وعلى رأسها سب الدين، وفى الداخل نشأت عشوائيات سريعة للغاية مثل عربات الكبدة والكشرى والفول والفلافل و«الحاجة الساقعة» والبسكويت والملابس الثورية «تيشرتات وطواقى وقبعات وغيرها»، وقيل أيضاً إن بعض السادة الثوار كانوا يبيعون الحشيش والترامادول والبودرة للراغبين فى التعاطى، وفى غضون أسابيع أو شهور قليلة صار التحرير والشوارع المتفرعة منه قلعة لكل أنواع الرعب والإرهاب والبلطجة والبذاءة والإجرام، وكان من الطبيعى ظهور ميادين أخرى يرتادها أشخاص على درجة معقولة من الرقى والسلوك النظيف ويطالبون بالاعتذار لحسنى مبارك، وبعضهم يطالبون أيضاً بعودته، وكلما استاء أحدنا من مطالبهم يضطر للصمت وهو يستعيد سلوكيات أصحاب الميدان الآخر الذى أطاح بمبارك دون أن يبحث عن بديل.
(2) خلال أيام قليلة بعد خروج مبارك من السلطة، بدأ السادة والسيدات مقدمو البرامج التليفزيونية فى استضافة عدد من السادة الشباب الذين ظهروا من خلال مواقع التواصل الاجتماعى وقالوا إنهم زعماء الثورة التاريخية غير المسبوقة، وشهد جمهور التليفزيون فى تلك المرحلة أكبر كمية عبط وصلف واستفزاز وحماقة وجهل وغباء على ألسنة ووجوه هذه القيادات أو معظمها. أتحفنا الأستاذ «شادى» بدروس عميقة فى فن الاستعلاء الثورى الشبابى وهو يرفض كل شىء ويقول إن الثورة لم تبدأ بعد رغم أنها كانت قد ماتت وشبعت موتاً على أيدى رفاقه الذين انطلقوا يحرقون كل شىء ويحاولون اقتحام كل مؤسسات الدولة ويتحول بعض الصبية المرافقين لهم إلى حرس ثورى! وأبدع الأخ «دومة» فى شرح بطولاته فى إبادة المكتبات وإحراق الكتب والخرائط والوثائق لأنها تنتمى للعهد البائد! ووضع الاشتراكيون الثوريون سلسلة حول رقابهم تحمل فى نهايتها قطعة خشبية أو معدنية مكتوباً عليها «إياكش تولع»! والأسوأ من كل هذا أن السادة بتوع التليفزيون كانوا يتعاملون مع السادة الثوار بإعجاب شديد ويتحدثون معهم باحترام لم نشهده فى لقاءات سابقة مع علماء ومثقفين ونجوم حقيقيين من المصريين والعرب والأجانب!!
وتفاقمت هذه الظاهرة المؤسفة حتى وصلت إلى التطاول الغبى الذى شهدناه من الأخ علاء الأسوانى فى حوار مع أحمد شفيق الذى كان آنذاك يشغل منصب رئيس الوزراء.
(3) حين استؤنفت الدراسة فى الجامعات بعد عدة أسابيع من رحيل مبارك، انتقلت ثورة الشباب إلى الكليات، وصار السادة الطلاب ثواراً يطالبون بإقالة العمداء ورؤساء الجامعات وكل من لا يروق لهم من الأساتذة، وشهدنا فى ذلك الحين مظاهرات شبه يومية أمام مكاتب عمداء بعض الكليات تردد الهتاف الشهير «مش حنمشى.. هو يمشى»! وفى الزقازيق احتشدت أعداد ضخمة من السادة الطلاب وهتفت بسقوط رئيس الجامعة! وتم فض المظاهرة رغم أن رئيس الجامعة استمر فى موقعه!! أما أطرف وأظرف المظاهرات الجامعية فى ذلك الحين فهى تلك التى كانت ترفع شعار النجاح الفورى لكل الطلاب لأنهم شباب ولأن الشباب هم أصحاب الثورة وأصحاب البلد، وهم الذين تمكنوا من الإطاحة برئيس الجمهورية ونظامه الفاسد، فكيف يرسب بعضهم أو أحدهم فى امتحانات يضعها ويضع درجاتها فلول العهد البائد؟! وقال لى أحد قادة هذا النوع من المظاهرات «إحنا عارفين إنك من أحزاب المعارضة بس انتو فاشلين ماعرفتوش تعملوا حاجة.. سيبونا بقى نكمل ونعلمكم البلد دى تتصلح إزاى»!
(4) كمية «الاستلواح» والغباوة والعنصرية والبذاءة والعنف، فضلاً عن الاسترزاق والعمالة والعدمية، وكل درجات الحماقة، هى الناتج الذى تبقى بعد أسابيع قليلة من اندلاع الهوجة الينايرية، وبعد مرور سنوات على هذا الحدث، وبصرف النظر عن تسميته ثورة أو انتفاضة أو هوجة أو مؤامرة (إلخ)، فإن التقييم العملى الوحيد الذى يخرج به أى شخص شارك فى الأحداث لوجه الله ولصالح الوطن دون أدنى انتظار لأى قدر من المصالح الشخصية يتلخص فى أن هذه الأحداث كانت فى جوهرها مجرد سعى لتداول الاستبداد والفساد وليست سعياً للديمقراطية وتداول السلطة.
قيل إن الشباب هم أصحاب الثورة، فمارس هؤلاء الشباب كل الحماقات الممكنة وغير الممكنة حتى أضاعوا على البلاد كل فرص التحول الديمقراطى الحقيقى، وقيل إن صناديق الاقتراع هى الفيصل فى كل شىء، فجاءت هذه الصناديق بأصوات الزيت والسكر والذقون الطويلة والأيدى المتوضئة والنفوس الخربة والعقول المريضة وبلطجية السنج والمطاوى والرشاشات والسيارات المفخخة «إلخ إلخ إلخ».. كل الناس فى مصر تحولوا إلى كائنات راديكالية لا يعجبها أى شىء رغم أنهم هم أنفسهم لا يعجبون أحداً، ورغم أن معظمهم لا يفعل شيئاً سوى الأكل والشرب والكلام، وكانت أسوأ أيامنا وأكثرها فشلاً وبؤساً هى تلك التى شهدت الاستجابة الكاملة لإرادة إخواننا الثوار، ففى تلك المرحلة تم تنصيب الدكتور عصام شرف رئيساً للحكومة صاحبة أكبر قدر من التلويش والخسائر والعشوائية، حيث قال رئيسها إن «الشعب جريح» ولا يمكن السيطرة عليه فى الوقت الراهن، ثم حلّت علينا بركات الإخوان والفصائل اليسارية والليبرالية التى تحالفت معهم، وصرنا بعدها فى محفل كوميدى عبثى يرأسه شخص لا علاقة له بحكم أو حِكمة، ثم دخل فخامته بالبلاد إلى مستنقع بلا حدود من العشوائية والحماقة والعبط كاد يفضى إلى حرب أهلية لولا قوة الجيش، وقبلها رحمة الله بهذا البلد المنكوب.
نحن - ببساطة - لا نملك مقومات الديمقراطية، ولا نملك مقومات المشاركة السياسية الحقيقية، ولا نملك الوعى الكافى لأى أداء جماعى على قدر مناسب من المنطق والموضوعية، وفى ظل هذه الأحوال لا يطالب بتداول السلطة إلا هؤلاء الذين يحلمون بممارسة الاستبداد السياسى والشخصى بدلاً من آخرين، ولا يفضح الفساد ويستنكره إلا هؤلاء الذين يعجزون عن المشاركة فيه، ولا يتعرض لضياع عمره سدى إلا الشخص حسن النية الذى يقضى حياته فى أحلام رومانسية بوطن نظيف عادل محترم لا تمطر فيه سحب الخير على بقعة دون أخرى أو قصر دون كوخ أو سلطان دون ماسح أحذية.
كل عام وحضراتكم بخير فى مناسبة العيد الثامن لثورتكم المجيدة والعيد الثامن والسبعين للشرطة التى هى فى خدمة الشعب!