بريد الوطن .. أحلاهُم والدنيا التى تغيرت (قصة قصيرة)
أحلاهُم والدنيا التى تغيرت (قصة قصيرة)
لا تَزال الطّبيعة تجترّ أنفاسَ الصّباح، تتكاثف خيوط الضّباب كأشباحٍ، تتعقّد وتتلوّى فوق الحقولِ، تحتضنُ كُلّ شىءٍ فى استماتة، وهكذا يفعل الشتاء فى اجتراءٍ، هناك تراصّت فوقَ الجِسرِ الكبير أمتعة الرُّكاب الرّخيصة، ندت على وَجهِ «مختار البقال» ابتسامة باردة، أبرد من الصَّقيِع المُتَكلّس فى المكانِ، قالَ مُتَحسِّساً طَرف جِلبابه البوبلين: «أحلاهُم جت»، بادرته «زكية» بائعة الجبن فى مزاحٍ لا يخلو من إسفاف: «يكفينا ربنا شرّ تلزيق العجايز» غَمزت بعينها فى مجونٍ، ثم أطلقت ضحكة رقيعة أشبه بالعُواءِ، لاحت الحافلةُ من بينِ أشجار السّنط فى خضرةٍ مُتربةٍ، على بعدِ أمتارٍ قلّلت سرعتها، لتقف فى مكانها، هَبطَ «محمد الزعلان» بوجههِ القانى المكفهرّ، وذوائبه المتهدلة، يَدكّ بحِذائهِ الميرى الغليظ درجات السُّلم، تحمرّ وجنتاه فى خفرٍ ينطلق لسانه: «العربية فاضية يا خلق، يا بنى جاموس»، يظلّ فى هيجانهِ لا يتوقّف شقاؤه عند حدٍّ، يصطنع مشاكل لأتفه سبب، يضيقُ صدر النّاس بجهامته، «الزعلان» كمسارى يهابه الرُّكاب لسوء خلقه، لا يجرؤ أحد على معارضته، سوى طلاب المدارس وموظفى الحكومة، وأبناء الأعيان، أمّا البقية فيرون فيه حصانة، أسبغتها عليهِ البدلة الكاكى، بصوتٍ منخفض تَشوبهُ ارتعاشة، وبوجهٍ ملائكى يخاطبهم «الحاج محمد» مفتش المصلحة: «عذراً يا حضرات، لقد تعطلنا، استدعينا الورشة فى الطريق»، هبط مُتأففاً وودّع «أحلاهم»، أخبرنى «عمى مسعود» الفراش، وفِى عينيهِ تتدفق العَبرات: «لقد صفوا الشّركةَ.. باعوا المحطة، اشتراها ثرى، سيحولها أبراجاً سكنية».
محمد فيض خالد
يتشرف باب «نبض الشارع» باستقبال مشاركاتكم المتميزة للنشر، دون أي محاذير رقابية أو سياسية، آملين أن يجد فيه كل صاحب رأي أو موهبة متنفساً له تحمل صوته للملايين.. "الوطن" تتلقى مقالاتكم ومشاركاتكم على عنوان البريد التالي bareed.elwatan@elwatannews.com