حياة قاتلة فى «بطن الجبل»
ممرات صخرية ضيّقة، حجرات تغوص أكثر فأكثر فى عمق الجبال، جدران نحتت فى الصخر، شُرفات معلقة فى الهواء، وغرف تنفتح على حياة الفقر والتقشّف، لا فرق بين النهار والليل فى حياة سكانها، بلا كهرباء، بلا ماء، تداعبهم القوارض وتلدغهم العقارب والحيّات، وداخل الجبال الوعرة امتزج أمل الخروج من رحم الجبل عند البعض، بتمسك الآخرين بمسقط رأسهم، يفضلون الموت على الرحيل، من المكان الذى استغرق سنوات حفر ونحت بأناملهم المرتعشة، أملاً فى حجرات تؤويهم من برد الشتاء ورطوبة الصيف، أو سعياً وراء مكان أفضل، لكن يكون خالياً من العشرة الطيبة التى تربطهم ببعضهم البعض وقت الأزمات.
حياة سكان «بطن الجبل» بالدويقة لا تجد لها وصفاً أدق من حياة الإنسان البدائى الذى يعيش عصر الظلام والفقر، فهم بؤساء على شفا حفرة من الموت، منازلهم الموحشة متزينة بالأعلام المصرية المنقوشة بكلمة «الحرية» منذ ثورة 25 يناير، أما سكانها فهم سجناء فقرهم وعتمة الليل الطويل الخالى من الحياة، هنا تجوّلت «الوطن» بين ممرات «بطن الجبل» لتنتزع الكلمات من أصحاب بيوت تصرخ لتطويرها، لا أن ترحل من مكانها الملىء بالذكريات.
يقبع داخل حجرة مساحتها لا تتعدى المترين، حوائطها الثلاثة من الطوب الأحمر، أما الرابع فهو تصدّعات جبلية، سقفها من الخشب المكسو بأغلفة بلاستيكية هشة تحجب عنه غزارة أمطار الشتاء، منطقة «بطن الجبل» وجد فيها الرجل الخمسينى ضالته المنشودة منذ 45 عاماً، عندما أتى على الدويقة طفلاً فى الخامسة من عمره برفقة والديه، فجأة مات الآباء وبقى ورثهم قطعة من الجبل على هيئة حجرة للابن الوحيد «منصور رجب»، 50 عاماً، الذى تربى وتزوج وأنجب أبناءه الثلاثة فى الحجرة ذاتها التى تصرخ فقراً للكهرباء أو الماء، أمام رفض الرجل الخمسينى لمخالفة القانون و«شخللة» جيوبه الفارغة حتى يدفع لموظفى الحى من أجل عداد كهرباء مخالف «الموظف قال لى أدفع زى غيرك، وأنا قلت له يفتح الله، عندى أشحت ولا إنى أمشى فى سكك ملتوية، فقير ماشى، لكن عينى مليانة، وراضى بعيشتى، لحد ما ييجى اللى يطوّر المكان من غير ما يبتز اللى عايشين فيه».
شفق الغروب إشارة عم «منصور» لإنهاء اليوم، الذى يبدأ بأشعة شمس حارقة تلفح بشرته الخمرية، وقطع مسافات سيراً على قدميه النحيلتين للوصول إلى الطريق السريع، بحثاً على منطقة خدمات لشراء مستلزمات وحاجات منزله «3 ساعات مشى وشحططة لحد مطلع للمزلقان، عشان أجيب أكل لأولادى، وعلاج لمراتى العيانة»، بين المعاناة اليومية ومطالب الرحيل التى يكررها على مسامع عم «منصور» المهندسون المختصون فى الشأن الجيولوجى بسبب الخطر الداهم الذى يحوم حول المنطقة يأبى الرجل الخمسينى الرحيل، فيكفيه التهجير من محل عمله أسفل كوبرى 26 يوليو إلى موقف الترجمان «من ساعتها مش بكسب جنيه، وقاعد فى البيت، ولو على جثتى مش هسيب الحتة اللى عايش فيها»، يستنكر الرجل الصابر على الغُلب حجم التناقض بين جانبى الجبل الذى يأكل كل عام عشرات البيوت من الجهة الجنوبية، حيث الغرف الهشة التى يلقى أهلها من سكان الدويقة الأصليين حتفهم بسبب التصدعات المستمرة، نتيجة ارتفاع منسوب المياه الجوفية فى الجبال، أما الجانب الشمالى، فهو عبارة عن عقارات متماسكة بمساحات ملائمة يعيش داخلها «سكان الزلزال» من مناطق متفرّقة مثل باب اللوق وباب الشعرية يقول عنهم «منصور»: «جزء منهم أخد الشقة سبوبة وبيبيعها لناس تانية بـ90 و100 ألف واحنا لسه بنحبى وراء الكهرباء.. يرضى مين؟».[FirstQuote]
المياه لا تزورهم إلا يوماً واحداً فى الأسبوع وبقية الأيام يقطعها الشقيقان «وليد» و«أشرف عبدالمنعم» فى رحلة من داخل بطن الجبل إلى خارجه، لملء «جراكن» المياه الخالية بمقدار يكفيهما، يشرح الشقيق الأكبر رحلة الـ6 ساعات طلباً للمياه: «العيال بتمرض بسرعة بسبب المياه، بننزل كل يوم رايح جاى 6 ساعات شايلين على ظهرنا جراكن المياه ولما نتعب، الستات تكمل بعدنا، وقبل الأوضة نستريح 5 ساعات، عشان نقدر نطلع الدهاليز من غير ما رجل واحد فينا تفلت، واللى يقع يفضل عاجز طول عمره»، أزمة المكان الذى يعج بالفوضى والمشكلات تعتبر جانباً من همّ الشقيقين اللذين يعانيان نظرات الناس عندما يعلم أحدهم منطقة سكنهما «إحنا جدعان منقبلش على نفسنا لقمة حرام، بنحاول نعمل لعيالنا اللى متعملش معانا، نوفر اللقمة واللبس والتعليم والدروس، إحنا اللى إيدينا اتشققت عشان نعيش، بطن الجبل زى ما فيها الوحش فيها اللى عاوز يطور بس فين الإمكانيات؟».
منذ عام 2002 والشقيق الأكبر «أشرف» يصد عن أطفاله الثلاثة خطر العقارب أثناء نومهم «مابقتش عارف أنام عشان شغلى ولا أفضل صاحى عشان أجيب العقارب، اللى ياما موتت ناس هنا أو خليتهم بعاهة طول عمرهم من جمب ودان عيالى»، يصب الأب الأربعينى جام غضبه على حى «منشأة ناصر» الذى ما إن تشكلت لجنة لفحص حجم الأخطار تطالبهم بدفع مبالغ مالية «رشوة» أو الطرد من بيوتهم بحجة «الخطر الداهم»، وفق قوله، رغم استقطاعه جزءاً من مصروف المنزل الذى لا يتعدى 1000 جنيه شهرياً حتى يدفع للحى «عشان يريحه دماغه»، لكن تبقى مشكلاته كما هى أسقف رطبة، قوارض وثعابين وكلاب تعوى ليلاً ونهاراً، لا تختلف حياة «وليد» الشقيق الأصغر (35 عاماً)، لـ«أشرف» من ناحية الإهمال والفقر، لكن أبناءه اعتادوا رؤية جثث مجهولة الهوية ملقاة أعلى قمة الجبل أو داخل أحد البيوت المهجورة، لتصيبهم حالة من الذعر والهلع وكوابيس تعكر الحالة النفسية لأطفاله التى أصبحت «تحت الصفر»، أما عن دور رجال الشرطة داخل المنطقة الوعرة، يتحدث الترزى الثلاثينى قائلاً والألم يعتصر فؤاده «الشرطة بتستنى لما الناس تخلص على بعضها وتدخل فى الآخر تلم الجثث، لا حد بيعرف هى لمين ولا مين اللى عمل فيها كده؟، قولوا لنا ولادنا تتربى إزاى لما كل يوم تنام وآخر صورة فى عقلهم جثة مشنوقة أو مذبوحة وبيصحوا على ريحة الممنوعات والمخدرات، مين المسئول اللى يرضى على نفسه يشوف اللى إحنا بنشوفه بقالنا 12 سنة، وساكتين عشان مالناش حتة تتاوينا إلا هنا؟».[SecondImage]
من شدة النحت فى الصخر تناثرت الفُتات إلى أن حجبت الرؤية عن عينيه نهائياً، فأصبح «فرغلى عبدالنعيم حسن»، 68 عاماً، بسبب البحث عن مأوى «ضرير»، لا سند له أو ولد، كل ما يملكه فى الحياة، زوجة طاعنة فى السن ترقد على ظهرها بلا حركة داخل حجرة موحشة، مساحتها لا تتجاوز الثلاثة أمتار بلا صرف صحى أو عداد كهرباء تتكاثر داخلها الحشرات بسبب رائحة المكان المحيط بهم، فأغلب المنطقة الجبلية بيوت مهجورة، بسبب تمدد الجبال تحولت إلى رُكام و«خرابات»، استخدمها الحرفيون بالمنطقة كـ«مراحيض عمومية»، دون مراعاة للحالة الصحية التى يمر بها الزوجان من الرائحة العفنة التى تزكم الأنوف، يتحدث الرجل السبعينى بضيق صدر عن انعزال المنطقة والساعات الطويلة التى لا يجدان فيها من يؤنس وحشتهما «المنطقة أخذت من صحتنا وشبابنا ومحدش حاسس بينا، جسمى مابقاش نافع للشغل، وكل اللى معايا 400 جنيه معاش، بعيش بيهم أنا والغلبانة مراتى، علاج وأكل وشرب»، يكمل الزوجان التعيسان بعضهما البعض، هو يكمل لها «الحركة» وهى تكمل له «الرؤية» وفق قوله، أكبر طموحاته «عيون ترى»، فهو جسد بلا حياة بعد أن غاب نظره الذى يُذكّره بزهرة شبابه الضائعة «كنت فران باخبز أحسن عيش بلدى من بتاع زمان، الحرارة ضعفت نظرى وحفر البيت أخد اللى باقى منه.. نفسى فى عملية أرجع أشوف بيها مراتى، وفى نفس الوقت باحمد ربنا إنى مش شايف القرف اللى حواليا وكفاية حاسس بريحته اللى فاحت».
«فرغلى» يأبى الرحيل ويتطلع إلى مُساءلة وزارة العشوائيات التى يؤكد أنها «فى الطراوة» وأصابتها حالة من التكاسل نحو خدمة المواطنين أمثاله، مشيراً إلى أن الدويقة تملك مساحات من الأراضى يسهل البناء عليها وإعطاء المتضررين شققاً بسقف يحميهم ويسترهم عوضاً عن الألواح الخشبية الرطبة التى أصابت عظامهم وكشفت فقرهم المدقع «إحنا حياتنا شرك مع اللى حوالينا، ترمى الإبرة يسمع رنتها اللى جمبك، كلمة البيوت أسرار مش موجودة فى قاموس سكان بطن الجبل، الحمام لامؤاخذة من غير سقف، والحريم عشان تستحمى بتغطى الخشب بستارة، والقنوات تيجى تصور وتتاجر بحياتنا، والعيشة السواد اللى عدت 30 سنة ومكملة».
[SecondQuote]
الطرافة التى يتناولها «إسماعيل ياسين» فى فيلمه «العتبة الخضراء»، لم تعكس على أرض الواقع الآلام التى مرت فى حياة «مديحة خيرى»، 35 عاماً، الملقبة بين أهالى بطن الجبل بلقب «أم البنات»، عندما أجبرها «بلطجية المنطقة» على شراء مترين من الجبل، رغم علمها أنه ملك للجميع حتى تتمكن من السكن ولتحجب بناتها عن عيون الذئاب البشرية التى لا ترحم كبيراً أو صغيراً بسبب المخدرات المنتشرة فى الممرات الضيقة بالجبل «من 5 سنين اشتريت حتة من الجبل بـ500 جنيه، بنيتها بإيديا طوبة طوبة، عشان عيالى يعيشوا، أحسن ما يناموا ولا يشحتوا فى الشوارع»، إمكانياتها المادية لا تسمح لها بإلحاق الفتيات الخمس بالدراسة، فواحدة أو اثنتان تكفيها «هلاحق عليهم دروس ولّا فلوس وهدوم.. اتنين يتعلموا أحسن ما يجوع الكُل»، فزوجها الأربعينى «أرزقى على باب الله» وفق قولها، فى ظل ظاهرة انقطاع الكهرباء المستمرة: «بيرجع البيت من العصر ومش بيحصّل مليم» وفق قولها، على مرق الزفر الذى لا يزور بيتهم إلا مرتين فى الشهر، تطهو ربة المنزل الوجبات التى تصمد لأيام «باعمل الأكل على يومين أو تلاتة، ساعات قرديحى، وساعات على شوربة الزفر (لحمة أو فراخ)، وأوقات فول وعيش.. المهم أن العيال مايبقاش نفسها فى لقمة».[ThirdImage]
يستقبلك باب حجرة «مديحة» المشقوق، ليأخذك فى جولة لا تتعدى الدقيقة، لكنها تعود بك سنوات إلى الوراء، فالحمام الملحق بالحجرة فى الهواء الطلق، يسهّل على البيوت التى تسكن أعلى منها رؤيتهم، أما الطرقة فلا تتجاوز ربع المتر وتحمل على أحد جوانبها «بوتاجاز وتلفاز مستعمل» حصلت عليهما الأسرة بالجمعيات حتى لا تحرم بناتها من أبسط الحقوق فى حياة شبه منتعشة، فى الوقت الذى تستعد فيه أى أسرة تمر بمثل ظروفهم البائسة إلى بيع الأبناء أو قتلهم، عجزاً عن سد طلباتهم وبطونهم التى لا تكف عن طلب الطعام، آخر ما تحلم به الأم الثلاثينية التى لا تملك ابتسامات الرضا التى توزعها على بناتها الخمس بالتساوى لتعطيهن درساً فى الرضا بقضاء الخالق الذى وضعهن فى اختبار إلى حين أن يأتى يوم الخلاص والخروج من رحم الجبل: «أنا حابسة بناتى بين أربع حيطان، عشان خايفة عليهم من المدمنين والبلطجية، وحلمى يتنفسوا هوا نضيف.. ويدخلوا المدارس ويبقى معاهم شهادة، ولا يخيبوا خيبتى أنا وأبوهم».[ThirdQuote]
خرج ابنها ولم يعد، تلبيةً لنداء الوطن (الخدمة العسكرية)، تاركاً خلفه أمه المسنة «رئيسة عبدالمحسن محمد»، 58 عاماً، وحدها بعد وفاة الزوج، فى صراع مع موظفى حى منشأة ناصر، الذين أجبروها على «تفتيح مخها» وفق قولها، وتدس فى جيوبهم مبلغاً زهيداً يشجعهم على إدراج اسمها ضمن لائحة سكان شقق أكتوبر: «مضيت مرة واتنين على النقل، لكن فى كل مرة يقولوا لى دورك مجاش، ولما استفزنى الموضوع سألتهم قالوا لى الفلوس بتخلّص كل حاجة، ادفعى تسكنى، ماتدفعيش تندفنى هنا.. 450 جنيه معاش جوزى يعملوا مع العصابة دى إيه».
«رئيسة» مهددة بالموت بين الحين والآخر، فمنزلها يتلاصق بجدرانه المشروخة مع صندوق كهرباء متهالك، مثبت بجواره ألواح خشبية مدموجة بأسلاك كهربائية تخرج عن الصندوق كـ«توصيلات» تخدم بيوت المنطقة، فما إن يلامس أطرافها الماء ينتج ماس كهربائى يصعق من يجاوره «بنقعد نلمّس فى الأسلاك بالساعات عشان ننور بيوتنا، هى آه زى عدمها لأن الكهربا بتقطع من بعد العصر لتانى يوم، لكن لما بتيجى بنعرف نغسل الهدوم بالمياه اللى بنحوشها كل أسبوع».
مصنعه للأخشاب والموبيليا ومنزله فى المكان ذاته، لا يرضيه بغير «بطن الجبل» مسكناً، فهو يختلف عن البقية، ميسور الحال، يملك من المال ما ساعده على بناء طابقين يعيش تحت سقفهما، هو وبناته الثمانى منذ 20 عاماً، واليوم بسبب غياب الصرف الصحى وعداد الكهرباء عن منزله، يوشك «سيد فرغلى محمد»، 42 عاماً، على الرحيل إلى شقة لا تتعدى مساحتها 64 متراً بأكتوبر، يهدده بها الحى بين الحين والآخر إذا تأخر عن دفع «إتاوة» وفق قوله، مؤكداً «الفلوس اللى بدفعها زى المسكنات، لأنى ماقدرش أسيب بيتى اللى بنيته من عرقى عشان أروح أسكن فى جحر فئران مع مراتى وعيالى كلنا فى أوضة وصالة وأبويا العجوز صحته ماتسمحش يطلع سلالم عمارة، يغور السقف المتين قصاد عيشة كلها جحيم»، يستعد الحرفى الأربعينى لكتابة تعهد على نفسه بالموت تحت سقف المنزل، لرئاسة حى منشأة ناصر الذى يلقبه بـ«كويت الدويقة»، حيث المصالح التى تمر بالرشاوى وفق قوله، على أن يتركه ليراه أمام عينيه ركاماً.
ينهى «أبوالبنات» حديثه برجاء لرئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى، الذى نجح بأصوات الغلابة الذين ألقوا حملهم فوق كتفيه من أجل أن يساعدهم فى محاربة الفساد «يا سيادة الرئيس، مصنعى مشغل 20 راجل من المنطقة، لو قفلت يجوعوا، ولو عزّلت عيالى يتشردوا، سيبنا نعيش وخلى حكومتك ترحمنا، كفاية المرار اللى طافحينه»، حسب سيد فرغلى.