لكل إنسان طفولة تشكل وعيه وسعيه فى الحياة، وأنا كلما تذكرت النادى فى صغرى تأتى إلى مخيلتى تلك اللعبة التى تدور وعليها أقف مع شقيقى، وتلقمنا أمى «ورق العنب والكوكو» حتى ننتهى من الطعام، لا بد أن الأمهات هن مبتكرات النزهة التى تقام على الأرض فى الحدائق مع الطعام البيتى، علمت منذ هذا الحين أن روحى معلقة به.. ورق العنب! هذا الطبق الساحر الذى جعلنى كلما تناولت الكرنب أجد نفسى أبحث فيه عن الورق الأخضر والقطع الداكنة، سذاجة وظناً منى بأن يكون هو ورق العنب ولكن بلا جدوى!
يبدو الأمر تافهاً سطحياً، ولكنى كلما قابلت شخصاً جديداً لا أحبه أو أشتهيه، أجد نفسى أبحث فيه عن ورق العنب، بل أصبحت أطهيه لأقنع نفسى بأنه ورق عنب بالفعل ولا ينقصه إلا قليل من التحبيشة.
حظى فى الدنيا ربما لم يكن كبيراً كما ظننت خلال مراهقتى، ولكن أصدقائى هم الاستثناء الوحيد، إذا ما طرحنا منهم البعض الذين لويت أذرعهم ليكونوا ورق عنب، بينما هم فى حقيقة الأمر كرنب.. صعب الهضم، متعب للمعدة، مذاقه ثقيل على القلب، ناهيك عن أزمات أخرى حينما تقرر التخلُّص منه، فيخرج أسوأ ما فيك وفيه، وتكره نفسك مع هؤلاء الذين أجزموا بأنك سيئ فى روايتهم فتبدأ فى أن تكون أسوأ مما ظنوا، ولكنه كظم الغيظ.
نصيحة عن خبرة.. لا «تكظمه» فلكل فعل رد فعل، وكلما كظمت غيظك عن فعل ما، ارتد إليك فى المرارة، أو الزايدة وربما المصران الغليظ!، وكلما عبّر المرء عما يمر به من كرنب زاد إقباله على الحياة، واتسعت ابتسامته، وزادت ثقته فى نفسه والآخرين، فأخذ الحق حرفة لم أتمكن بعد من إتقانها، فأنا ما زلت فى الطريق المسدود لهؤلاء الذين يعبّرون عن مشاعرهم من كره وحب دون حساب، ما يجعلنى أمام حائط صد فى كل مرة، فأكظم الغيظ تارة وأملأ الدنيا صراخاً تارة أخرى، وفى كل الأحوال أنا الفائزة بـ«الخاسر الأكبر».
هل الكرنب حقاً مكروه لهذا الحد؟ بالطبع لا، ولكنها الفروق الشخصية بين البشر، فما هو ورق عنب بالنسبة إلىّ ربما يكون «كرنب» بالنسبة إليك.. ولكن من يستطيع أن يطلق الأحكام المطلقة؟، من يحدد الخير والشر؟.. الثواب والعقاب؟، الحلو والوحش؟، طفولتى بها الكثير من ورق العنب الذى يجعلنى أبحث دائماً عن الحلو فى كل البشر، وأعيش بفطرتى رغم كل ما تعرضت له.. ولكنى فى النهاية أجد نفسى ورغم كل شىء أمام كم هائل من الكرنب الذى يرفض التخلى عنى.
هذا يعلمنى بدوره ثقافة التخلى، كيف تتخلص من «كرنباية» فى خطوة واحدة؟، «ارميها ورا ضهرك»، هكذا ببساطة يجب تعلّم كيف تتخطى كل ما يؤذيك، مهما بحثت فيه عما تشتهى ستصل إلى نتيجة واحدة وهى أنه لا يوجد مكان له على سفرة حياتك، وما تقبلته أمس لأننى كنت ساذجة (تبحث عن ورق العنب وسط الكرنب)، فقد نضجت بشكل كافٍ كى لا يكون له مكان، حينها فقط أتمكن من الاستمتاع بـ«دقيّة ورق العنب» على انفراد، تلك اللفائف الحنينة التى لم أرَ منها إلا كل حب، هى فقط تستطيع أن تضفى على حياتى بهجتها وألوانها.