ظني أن عبارة "أسفل سافلين" تعني انحطاط هيئة الإنسان وتراجع قدرته على التفكير، حين يقل منسوب إيمانه ويتخلى عن فضيلة العمل الصالح، ويتحول إلى آلة فساد وإفساد للواقع المحيط به.
والوصول إلى "أسفل سافلين" في هذه الحالة يعني هبوط الإنسان إلى درجة أقل من أدنى مخلوقات الله: "الحيوانات"، درجة "شر الدواب" يقول الله تعالى: "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون".
درجة "شر الدواب" كما يستدل على معناها من الآية الكريمة تعني تعطل الحواس، وتوقف العقل عن التفكير.. فمن يقعون في هذا البئر تنظر أعينهم فلا ترى، وترهف آذانهم دون أن تسمع، وتنطلق ألسنتهم بالمُر من القول، وأيديهم وباقي حواسهم بالشر من الفعل، أما عقولهم فتتوقف عن التفكير والقدرة على تمييز الخطأ من الصواب، والشر من الخير.. إننا أمام بشر فقد قدرته على الإحساس من ناحية، والتفكير من ناحية أخرى.. بشر يعيش مرحلة سقوط إلى مرتبة أدنى من "الحيوان"، لأن من الحيوانات ما يحس ويشعر، بل ويفكر ويتصرف بناءاً على اختيارات محددة.
يقول الله تعالى عن شر الدواب: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون".. هذه الآية تقول أنه لا مناص لشر الدواب من السقوط في "أسفل سافلين"، فلو علم الله تعالى في هذا الصنف من البشر خيراً ليسّر لهم فهم الأشياء، لكنهم بلا عقل يفهمون به، ولو حدث وفهموا لأداروا ظهورهم للحقيقة وأعرضوا عن قبولها، لأنهم لا يحسون.. وحين يفقد العقل قدرته على التفكير، والمشاعر قدرتها على الإحساس.. فماذا يتبقى للإنسان؟
لا يتبقى للإنسان شىء، بعد أن يتبلد إحساسه، ويتوقف عقله عن التفكير، وهذه المسألة لا تتعلق بمرحلة عمرية معينة، فقد تحدث في الصغر، وقد تقع في الكبر، إنها حالة تصيب الإنسان في أي وقت فتهز إيمانه بالله، واهتزاز الإيمان بالله يفقد الإنسان إيمانه بالحياة، وفقد الإيمان بالحياة يحول الإنسان إلى آلة إفساد لمعطياتها، ويختفي من قاموسه فكرة العمل الصالح، أو السعي لإصلاح الأوضاع المحيطة به.
هكذا تهبط الحياة إلى "أسفل سافلين"، بجهود "شر الدواب"، الذين يسعون في إفسادها، وضرب معاني الإيمان فيها، وتتكامل الصورة المشوهة بالطوابير الطويلة العريضة التي لم يكن لها دور في الإفساد، لكنها تتقبل الفساد، وترضى بمعادلاته، وتتكيف معها، وترضى بالعيش في ظلالها.. فصناعة الفساد لا تنتعش إلا في الظروف التي تجد فيها من يتقبلها.. يكاد الفساد أن يكون سلعة يحكمها -مثل كل السلع- قانون العرض والطلب، وبالتالي ينطبق عليها مفهوم التجارة.
الفساد صناعة وتجارة، يصنع بأيدي الناس، ويروج بإرادتهم.. يقول الله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي علموا لعلهم يرجعون".شر الدواب الراقدين في بئر "أسفل سافلين" هم سر فساد المجتمعات.