الشباب: عشنا «النوبة» فى الحواديت.. وسنورثها لأبنائنا
عمر صلاح الدين
شباب سمع الحكايات وكأنه عاش أحداثها، مصداقية الآباء والأجداد أثناء حكى ما يشعرون به من حزن ومرارة، وفى الوقت نفسه ما يتذكرونه من أيام الخير ويقصونه فى كل مكان وزمان على الأبناء والأحفاد، جعل سرد الحدث بطريقة شيقة وواقعية، يسمع الطفل الحكاية ودون أن يسأل عن تفاصيلها، تأتى له الحواديت كاملة، مرة يسمع عن التهجير من الجدة، ومرة يحفظها من الجد، ومرة يسرح بخياله عن البيوت على ضفاف النيل وعن الخضرة التى تملأ كل مكان، أما اللهجة النوبية، فسمعوها وأحبوها صغاراً أيضاً ويحرصون على الحديث بها شباباً أثناء تلاقيهم، حتى أصبحوا نسخة شبيهة تماماً من جدودهم، يحفظون حكاياتهم، يتكلمون النوبية، كما يحافظون على تراثهم وعاداتهم وتقاليدهم مهما بعّدت بينهم الظروف وفرقتهم فى أكثر من بلد.
«أسامة»: اتشردنا فى البلاد شرق وغرب وبنتجمع فى النوبة.. و«عوض»: بنيتوا السد على أرضنا عوّضونا بقى
على الرغم من عمل الشاب أسامة شعبان فتحى بشركة إعلانات فى القاهرة فإن حنينه إلى بلاد النوبة يأخذه إلى هناك كل فترة، خاصة فى العيد الكبير، حيث يتلاقى الجميع، من شباب وكبار، مغتربين ومقيمين، ويتحاكون بأحلام العودة إلى الماضى، ويسمعون حكايات الغربة: «الغربة صعبة ومش كويسة، ومأثّرة علينا، حتى شباب العائلة الواحدة متفرقين، سواء جوه مصر أو بره، وبالتالى بنحرص على التجمع فى النوبة».
عن النوبة القديمة سمع «أسامة» من جدته ووالده: «حكولى إن البلد كانت عند بحيرة النوبة وهى اسمها كده مش بحيرة ناصر، الحياة كانت قايمة على الزراعة، وكان التعامل مش بالفلوس، لكن بالمقايضة، تدينى مثلاً رز أديك قمح». لم يحضر «أسامة» تلك الفترة كغيره من الشباب، ولكنه عاشها من خلال الحكايات، حتى اللهجة والعادات والتراث احتفظ بها وحافظ عليها، يحكى: «فيه فرق كبير بين البلد القديمة اللى ستى حكت لى عنها، وبين البلد الجديدة، فرق شاسع فى الحياة، كفاية إنك تصحى تلاقى فى وش البيت نيل وزرع، حياة لا تقارن بأى مكان تانى على وجه الأرض». أما الجانب الآخر من الحكاية، فبعد خروجهم من جنتهم، وجدوا أنفسهم فى ما هو أسوأ من الدنيا، بدون أى ذنب فعلوه: «أهالينا اترموا فى صحراء، بيوت أربع حيطان وسط عقارب وتعابين، لكن الحمد لله، بدأنا نعمّر بلدنا بإيدينا».
«فايق»: نفسى أعيش فى النوبة اللى سمعت عنها فى الحواديت.. و«حربى»: كل الجيل اللى اتولد بعد السد عارف الحكاية .. و«عمر»: كل بيت نوبى فيه وجع.. و«بشير»: أراضينا مليانة كنوز إحنا أولى بيها مش المستثمرين
من ساعد أهالى النوبة فى بناء النوبة هم أنفسهم، دون مساعدات خارجية، ومن حافظ على تراثهم هم وحدهم فقط: «كل جيل بييجى بيعلم اللى بعده اللهجة، الزى، لسه بيطبخوا أكل نوبى زى الاتر والقابض، حتى اللهجة النوبية عملها مختار أحمد مختار فى كتابه للغة النوبية، ولها نطق وقراية، لكن تم إهمالها، زى ما فيه إهمال إعلامى». أما المشكلة الأكبر فى بلادهم حالياً فهى عدم وجود صرف صحى بحسب «أسامة» وما زال العمل فى القرى كلها بنظام السحب بالطرنشات، أما الصحة فهى مشكلة أخرى، يحكى عنها «أسامة»: «فيه كل كام قرية فيها مستوصف مش مستشفى، يعنى قريتنا أبوسمبل التهجير، فيها مستوصف يخدم 4 قرى، فالأمر الطبى ضعيف عندنا»، يحكى ثم يتحدث عن تمسك الشباب بأمل الرجوع إلى جنة النوبة القديمة.
الشاب النوبى عمر صلاح الدين، 30 سنة، كلما مر من أمام بيته وبيوت الأهالى فى منطقة النوبة القديمة شعر بحزن شديد، حزن لا يقل بمرور الوقت: «كل بيت من دول فيه وجع»، ومشاركته فى الاعتصام الأخير مع الشباب النوبى، ذكّرته بما حكاه له آباؤه وأجداده، زاد شعوره بالمرارة، ويسأل نفسه ومن حوله: «ليه بنتعرض للظلم والتهميش دايماً مش من امبارح، لأ من 118 سنة» ثم يجيب هو على سؤال: «مش فاهم، ومش عارف، ومش لاقى تفسير للموضوع ده».
إلى الآن يؤكد «عمر»، وهو عضو فى لجنة متابعة الملف النوبى، أن جدوده وآباءه لا يمر يوم عليهم إلا وفيه شعور بالمرارة، ويعيشون على أمل الرجوع: «ده فيه اللى مات من الحسرة واللى ماتوا من الزعل، الجيل الكبير كله شاف الصعاب، ناس كانت عايشة فى زراعات ونيل، فجأة يلاقوا نفسهم فى بيئة صحراوية جافة، وناس تموت من التعابين والحشرات، جيل شاف كتير برضه».
تضحيات، هجرة، ترك ممتلكات وبيوت، ومراكب، ونخيل وسواقى، دون تعويضات، هكذا تحدث «عمر»، ثم قال عن الشعور بالظلم الذى يعانى منه الكبير والصغير: «تعرضنا لأربع هجرات، من 118 سنة، كلها تضحيات عشان خاطر مصر، بداية من تهجير خزان أسوان، ونهاية بالسد العالى». لم ولن ينسى «عمر» كل ما سبق، لن ينسى الحكايات، ويؤكد أنه سيظل يطالب بحق أهالى النوبة: «بنطالب بالنظر فى التعويضات، واللى لينا لسه فى ذمة الدولة، بيوت ماخدنهاش، ليه مع زوال السبب لما السد اتبنى والمنسوب ثبت والأرض بقيت مستقرة المفروض نرجع للمكان، فى حالة وجود أى مشاريع أخرى إحنا الأصليين، ليه يكون فيه تغيير للتركيبة السكانية؟».
أما فايق النوبى، فآخر مرة زار أراضيه كانت منذ ثلاثة سنوات، وبالرغم من طول المدة بسبب مشاغل الحياة، فإنه يتمنى أن يعيش فى بلاد النوبة، يقول: «نفسى أعيش هناك، بس مش فى الجبل، لأ فى النوبة اللى سمعت عنها من أهلى». سمع «فايق» أيضاً عن الوعود بالعودة التى لم تنفذ، وعد بالعودة بعد 10 سنوات، مرت السنوات وفايق ينتظر العودة، وكلما مر من أمام نهر النيل تذكر حكاوى أهله عن البيوت التى كانت على ضفاف النهر: «النوبة كلهم يعشقوا النيل»، أما عما يحدث حالياً فيحكى «فايق»: «متابعين كل حاجة بتحصل، وعلى اتصال دائم بأهالينا وأصحابنا، وزى كل مرة هيثبتونا وترجع الحالة زى ما هى، مفيش حل إلا إن كلنا نطلع على هناك ونقعد فى أراضينا، وعندنا أمل كشباب ترجع النوبة كما كانت».
كان يعيش الأهالى فى بيوت أكبر كثيراً من الموجودة حالياً، حتى الأرض كانت أوسع على ضفاف النيل، الخضرة والزرع فى كل مكان، هو ما سمع عنه ناصر عوض شاهين، وسمع أيضاً: «أهالينا حكولنا إن كل حاجة غرقت منهم، اتعرضنا لظلم كبير ومفيش تقدير، بنحاول نأقلم نفسنا على الوضع فى أى مكان عشنا فيه، القاهرة، الإسكندرية، أى مكان حتى لو بره مصر، لكن فى يوم هنعود»، أما عن النوبة الجديدة فيحكى صديقه «علاء رجب»: «عمّرنا على قد ما عمّرنا، لكن الجبل صعب يتعمّر».
أهالى النوبة هم الوحيدون فى العالم الذين مازالوا محتفظين بموروثاتهم الثقافية إلى تاريخنا هذا، فأى شعب تعرض لغزو ثقافى، واندثار، إلا الثقافة النوبية ما زالت كما هى، وهو ما حكاه المواطن النوبى والذى عاش طوال حياته هناك أشرف حربى، الذى حكى: «أى حد مولود بعد بناء السد عنده موروثات ثقافية من الناس الكبار، إحنا لنا تاريخ، والدستور معترف به، وأهالينا زى ما علمونا اللهجة النوبية، علمونا ظلم التهجير، وأى حد اتولد بعد بناء السد العالى، أهالينا ادونا داتا وبيانات وتاريخ إحنا كنا عيشين ازاى».
كانت حكايات الأهالى للأطفال كحواديت قبل النوم، وواضح من كل حكاية الأثر النفسى والمعنوى على كل من الحاكى والمستمع، ويتساءل «أشرف» بعد كل حكاية مؤلمة عن الهجرة: «إزاى كان شعب عايش على بيئة نيليلة بحتة، وديته بيئة صحراوية، إزاى الموروثات مع البيئة النيلية تتعايش وتتكيف مع الصحراوية؟». أمل العودة موجود، يقول «أشرف»: «طول ما فيه حق وراه مطالب مصيره يعود، والأزمة الأخيرة فكرتنا بالتاريخ اللى بيعيد نفسه، هتودونا فين تانى يا عالم؟ دى كل قرى النوبة الموجودة حالياً مالهاش ظهير صحراوى للأجيال الجاية، يعنى مالكش توسعات، يعنى ترضى بالمكان وتوسعك يبقى رأسى مش أفقى، نسكن فى محيط 50 كيلومتر مربع فى حين كانت القديمة 350 كم».
يشعر عوض حسين بظلم إعلامى، يسأل: «ليه الكلام عن حقوقنا قليل؟ ليه السينما تقدم النوبى على إنه سفرجى، أو حارس دايماً، ده عشان إحنا أقلية؟ مش عارف أقول إيه؟ لأ النوبى مواطن وله حقوق وأحلام واتظلم كتير». مهما طالت السنوات يتمسّك «عوض» بحلم العودة، يردد: «إحنا مصر، وأكتر ناس تخاف على مصر، لكن اتظلمنا وبناخد كلام معسول، إحنا نعمل السد ونرجّعكم ومفيش حاجة خصلت، وصابرين ويضحك علينا بكلمة واحدة وهى «انتم غلابة».
يحكى «عوض»: «النوبيين كيان واحد، شخص واحد، يحافظون على بعضهم البعض، على تراثهم، ثقافتهم، لهجتهم، مهما فرقتهم المسافات، فهم واحد، وسيعيشون فى جنتهم مهما طال الزمان».
بينما يقول عادل إمام عبدالمجيد: «إحنا عايشين فى هجرة جوه الهجرة بالرغم من إننا أصل المصريين ومع ذلك ينكرونا ويستغلونا، كل شوية هنهجّرك، بعدها هنرجّعك، ونهجّرك ونوعدك ومانقدّركش»، ثم يؤكد أن المواطن ذا الأصول النوبية يتم تقديره فى كل الدول التى يعمل بها أكثر من وطنه «مصر»: «بره بيحترمونا، ويحافظوا علينا ويدونا حقوقنا تالت ومتلت، أحسن من هنا، ده هنا المتعلمين لما اقول لحد أنا نوبى، يقول لى يعنى مصرى؟، يعنى انت ماتعرفش إن أنا مصرى؟ إحنا مش غرب، إحنا تاريخ البلد». فيما يتعجب نبيل بشير قائلاً: «ليه مش عايزين يرجّعونا أرضنا، عايزين إيه؟ بيعملوا كده ليه؟ ولا عشان أراضينا مليانة كنوز وطبيعة، ولا عشان عايزين يبيعوها لمستثمرين، ما يستثمرها أهلها».