يوم الهروب الكبير من منطقة عمارة شبرا المنكوبة
لم تستطع صرخات «سيد»، عامل المحارة، أثناء قفزه من بلكونة الدور الأول، فوق كومة رمال وهو يقول: «البيت بيقع»، سوى فى إنقاذ «صبيّه»، الذى كان يقتطع من تلك الرمال كمية ليضيف عليها الأسمنت، ليستخدمها فى عملية تنكيس البيت المنهار، بينما لم ينجُ من الأنقاض، التى حاصرت بين ركامها 11 شخصاً، من سكان العقار، سوى 4 فى حالة خطيرة، يصارعون الموت فى معهد الأورام ومستشفى الساحل، فيما قُتل 7 آخرون شاركت «الوطن» فى لحظات وداعهم من المشرحة إلى مقابر «البساتين».
حارة «محمد دياب»، المتفرعة من شارع جسر البحر، بمنطقة الخلفاوى بشبرا، كانت شهدت الانهيار القاتل، الذى يرى سكان الحارة أنه سيتكرر مرة أخرى، بسبب كثرة المساكن العشوائية المتهالكة، حيث تسبب انهيار المنزل، المكون من 4 طوابق سكنية بخلاف الطابق الأرضى، الذى يضم ورشة ميكانيكا ومخزن للخردة، فى مقتل وإصابة نصف سكان العقار، الذين قدّرهم جيرانهم بنحو 22 فرداً، بينما كان النصف الآخر من قاطنى المنزل خارجه وقت انهياره.[Image_2]
الحكاية كما ترويها «أم ناصر»، بائعة الخضار التى تقبع ببضاعتها على بعد عشرة أمتار من المنزل الذى تحول إلى ركام فى غمضة عين، على حد تعبيرها، بدأت الساعة 11.20 صباحاً، بصوت انفجار ضخم، وبمجرد أن لفتت وجهها للبحث عن مصدر الصوت كان الغبار يحجب الرؤية تماما، وارتفع صوت الانفجار أكثر، وأضافت: «حسبنا الله ونعم الوكيل فى بتوع الحى، همَّ السبب فى البلاوى دى كلها، لأنهم كانوا عارفين إن البيوت كلها هنا معرّضة للانهيار فى أى لحظة»، موضحة أن هناك لجنة حضرت من قبل، وعاينت المنطقة وحددت مئات المنازل المخالفة، التى ارتفع أصحابها فى البنيان، وغيرها من المنازل التى تحتاج إلى «تنكيس»، وكان من بينها منزل «أبوالعلا» الذى انهار أول أمس، لأن أصحابه بنوا الطابق الرابع دون الرجوع إلى الحى، وصنعوا سقفه من الخشب، كما أن المبانى نفسها قديمة.
تحول المنزل المنهار إلى تل كبير بارتفاع 10 أمتار، وحاول أهالى المنطقة رفع ما يتمكنوا من رفعه وإزاحة بقايا الكتل من الجدران والأسقف، أملاً منهم فى إنقاذ الضحايا، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، حتى وصلت سيارات وأوناش الإنقاذ، بمصاحبة رجال الدفاع المدنى وسيارات الإسعاف، الذين أبعدوا جميع الأهالى من موقع الحادث.
سناء فتحى، إحدى ساكنات العمارة المجاورة للمنزل المنكوب، تركت شقتها مع غيرها من سكان العمارات المجاورة، خوفاً من سقوطها، خاصة أن انهيار البيت تسبب فى تساقط أجزاء من جدرانه المشتركة مع 3 عمارات مجاورة له، عن يمينه ويساره ومن خلفه، ما جعل جميع ساكنى العمارات يغادرون بيوتهم، تاركين أمتعتهم، خوفاً من الموت.[Quote_1]
تقول سناء، بعد فترة صمت، استغلتها لمسح دموعها بطرف «طرحتها»: «صفاء بنت أم محمد كانت مخطوبة أول امبارح، وكانت هتتجوز فى العيد الكبير، ماتت هى وأمها واخواتها»، وتتساقط دموعها التى تغلب حديثها فتصمت عن الكلام وتستمر فى البكاء، ثم تعود لتكسر صمتها قائلة: «كانوا 3 بنات مخطوبات فى العمارة وكلهم ماتوا، ومعهم أهاليهم».
ولم يسلم العابرون أيضاً، فقد ساق القدر «محمود» سائق الميكروباص، إلى المكان فى وقت الانهيار بالذات، ليدخل قائمة الضحايا، حيث جاء إلى «الأسطى رمضان» الميكانيكى، الذى يتخذ من أحد محلات الدور الأرضى بالمنزل المنهار ورشة لتصليح السيارات، ووقت الحادث، لقى السائق حتفه، بينما كانت السيارة درعاً واقية للميكانيكى من الكتل الأسمنتية المتساقطة، لأنه كان تحتها وقت الانهيار، فلم يُصَب سوى بكسر فى ذراعه.
يقول عماد عابدين، أحد أهالى المنطقة، إن الأسطى رمضان هو ابن «أبوالعلا»، أحد الضحايا الذين لقوا حتفهم تحت الأنقاض، حيث كان يقيم مع ابنه رمضان فى الطابق الرابع، حتى تزوج وانتقل إلى مسكن آخر فى شبرا الخيمة.
بين القتلى والمصابين، الذين كانت عملية استخراجهم مأساة، برز المشهد الأكثر مأساوية الذى أبكى عشرات المحتشدين من أهالى المنطقة، حينما استطاعت قوات الإنقاذ إخراج جثة «أم أحمد»، إحدى قاطنات العقار المنهار، وهى تحتضن ابنها ذا الـ3 سنوات وابنتها ذات الـ13 عاماً، فى محاولة منها لحمايتهما من الموت، مضحية بنفسها فى سبيل ذلك. محاولة الأم نجحت فى إنقاذ حياة البنت، التى ترقد حالياً فى غرفة العناية المركزة، بينما ماتت الأم والابن. فيما تسبب الخبر فى صدمة لزوجها «سيد عيد»، الذى ودع أسرته فى الساعة 7 صباحاً، متجهاً إلى عمله، ولم يكن على علم بما يخفيه القدر لعائلته، أو أنه لن يراهم مرة أخرى.[Quote_2]
وبعيداً عن مكان الحادث، حيث ترقد جثامين الضحايا السبع فى مشرحة معهد الأورام، تجمع عشرات المئات من أهالى وأقارب الضحايا، فى انتظار تغسيل الجثث وتكفينها وإخراج تصاريح دفنها، وجلست عشرات النسوة متشحات بالسواد أمام المشرحة، حيث اختفت ملامحهن وأجسادهن بين ظلمات الليل الأكثر سواداً من مصيبتهن، التى حولت كلامهن إلى صراخ وحركاتهن إلى عويل.
وعلى الجانب الآخر، كان الرجال يتجادلون بشأن الصلاة على قتلى الانهيار فى مسجد المشرحة أم فى مسجد السيدة عائشة بالقرب من مدافنهم فى البساتين، ليحسم «أحمد»، الشاب الثلاثينى وابن أحد المتوفين، الجدل، بقرار الصلاة فى مسجد المشرحة والتحرك بعدها مباشرة إلى المقابر. ووسط الفريقين، وقفت 5 سيارات إسعاف متراصة، تفصل بينهما، حيث تجمعت النساء على يمينها والرجال على يسارها، فى انتظار خروج الجثامين لنقلها إلى المقابر.
بعد فترة انتظار لأكثر من 4 ساعات، ومع دقات الساعة 12.30 بعد منتصف الليل، خرجت الجثامين فى 5 نعوش خشبية، رغم أن عدد الضحايا 7، وهو ما أثار بلبلة بين المئات المحتشدين أمام المشرحة، انتهت بتوضيح من أحد الشباب، الذى حضر عملية الغسل، موضحاً أن هناك طفلاً وُضع مع والدته فى نعش واحد، وأيضاً تم وضع طفلين شقيقين معاً فى نعش واحد. فيما انهمرت دموع عشرات المنتظرين بمجرد خروج أحد الجثامين، بعد تكفينه، على غطاء خشبى خاص بنعش آخر يظهر منه الجثمان ملفوفاً بالكفن الأبيض، بسبب قلة عدد النعوش.
وتحركت سيارات الإسعاف ومن خلفها سيارات الأقارب وأهالى المنطقة قاصدين المحطة الأخيرة لهؤلاء الضحايا.